كم هو رائع أحبائي في عيد الميلاد أن نتأمَّل بما يقوله الكتاب عن الميلاد. فنقرأ من إنجيل لوقا 34:1
“فقالت مريم للملاك: [كيف يكونُ هذا وأنا لستُ أعرف رجلًا؟] فأجاب الملاكُ وقال لها: [الروحُ القدس يحِلُّ عليكِ، وقوةُ العليّ تظلِّلُكِ، فلذلك أيضًا القدوسُ المولودُ منكِ يُدعى ابنَ الله. وهوَذا أليصابات نسيبتُكِ هي أيضًا حُبلى بابنٍ في شيخوختها، وهذا هو الشهرُ السادس لتلك المدعوّةِ عاقرًا. لأنَّه ليس شيءٌ غيرَ ممكنٍ لدى الله.] فقالت مريم: [هُوَذا أنا أمَةُ الرب. لِيكنْ لي كقولك.] فمضى من عندها الملاك…”
ثم طوّبتها نسيبتها أليصابات: “فطوبى للتي آمنتْ أن يتمَّ ما قيلَ لها من قِبَلِ الرب.” فقالت مريم: “تعظِّمُ نفسي الربَّ، وتبتهجُ روحي باللهِ مخلِّصي، لأنَّه نظرَ إلى اتِّضاع أمَتِه. فهوذا منذُ الآن جميع الأجيال تُطوِّبُني، لأنَّ القدير صنع بي عظائم، واسمُه قدوس. ورحمتُه إلى جيل الأجيال للَّذين يتّقونه. صنع قوةً بذراعه. شتَّت المستكبرين بفكر قلوبهم. أنزل الأعزاءَ عن الكراسي ورفع المتَّضعين. أشبعَ الجياع خيراتٍ وصرف الأغنياءَ فارغين. عضَد إسرائيل فتاهُ ليذكُرَ رحمةً، كما كلَّم آباءنا. لإبراهيم ونسله إلى الأبد.”
وآية من سفر العبرانيين 7:13 “اذكروا مرشديكم الذين كلَّموكم بكلمة الله، انظروا إلى نهاية سيرتهم فتمثَّلوا بإيمانهم.”
حين نتذكَّر ميلاد المسيح ونبدأ تأمُّلَنا بهذا الميلاد العجيب لا بدَّ أن نذكرَ إيمانَ فتاةٍ كانت بحسب قلب الله ومميَّزة جدًا هي السيدة الأولى في المسيحية القديسة مريم. نذكر ونتعلَّم من إيمانها… ننظرُ إلى سيرتها ونتمثَّـل بها… وبما يميِّزُها من مواقفَ كثيرة ناتجة عن عمل نعمةِ الله في حياتها.
الإيمانُ الخلاصي الذي يُحْيي ويعيدْ
فالمباركة بين النساء تمسَّكت بهذا الإيمان الخلاصي الذي يحُيي، أي الإيمان الحيّ. ترى ما هو الإيمان؟ ما معناه؟ أغلبيةُ الناس يظنُّون أنَّه الإيمان العقلي. لكن هنا نجد الإيمانَ الحيَّ الذي يتمسَّك بالربِّ وبمواعيده ويتمسَّك بعمل نعمة المسيح وبخلاصه وبهذه الدعوة العظيمة التي ائتمنَها الله فيها على ابنه الوحيد وعلى حياته. والآن، بكلِّ وقارٍ وخشوع لشخص المسيح يجب أن نفهمَ معنى هذا الإيمانِ الخلاصي الذي يُحيي ويُعيد.
فماذا قالت مريم لأليصابات نسيبتها؟ أنشدت قائلة: “تعظِّم نفسي الرب وتبتهجُ روحي بالله مخلصي.” تعبير رائع جدًا لأنَّ فيه وصفًا ليسوع وإعلانًا من الرب عنه بأنَّه عمَّانوئيل الذي تفسيره [الله معنا]. أولَم يقلِ الملاك الذي ظهر في حلم إلى يوسف رجل مريم: “فستلدُ ابنًا وتدعو اسمَه يسوع لأنَّه يخلّص شعبه من خطاياهم؟” ومعنى يسوع: الله مخلِّص. وها هي مريم تترنَّم على أساس التعليم هذا. إذ يقول أيضًا في سفر إشعياء: “أنا أنا الرب وليس غيري مخلّص.” (11:43) أي الرب يخلِّص. ومريم العذراء تبدأ من حيث يبدأ الرب أنَّ هذا هو الرب الذي تعظِّمُه هي (هو مخلِّصها). وكأنَّها تشهد أنَّه كما أنه سيولد في الجسد منها، فهي قد وُلدتْ منه بالروح، وقبل أن يسكنَ هذا الطفلُ في أحشائها صارَ لها خلاصًا.
جون وسلي المبشرُ الإنكليزي الشهير أتى إلى أميركا في القرن 18 ليبشِّرَ الهنود الحُمر. وبينما هو في وسط المحيط هبّت عاصفة كبيرة حتى أوشكت الباخرة على الغرق. فخاف واضطرب جدًا. لكنْ ما لفَت نظره هو مجموعةٌ من الناس الألمانْ كانت ترنّم وتهلّل بالرغم من الخطر. فاقترب منهم وسأل: كيف يمكنُكم أن تشعروا بسلام وسط العاصفة؟ قالوا له: لأنَّ لدينا يسوع وهو الذي يمنحنا هذا الاطمئنان. عندها سألوه: فهل تعرفُه؟ أجابهم قائلًا: طبعًا إنه مخلّص كل العالم. قالوا: لكن هل هو مخلّصك أنتَ يا جون؟! كان جون قد درس اللاهوت وأتى لكي يبشِّر بالمسيح، إلاَّ أنه لم يكن قد اختبر خلاصَ المسيح في حياته. كانت معرفتُه عنه معرفةً عقلية فقط. وحين عادَ إلى بلده إنكلترا سمعَ أحد الوعّاظ وهو يفسِّر رسالة رومية. فلمسَ الربُّ قلبه وهناك قبِلَ المسيح مخلِّصًا شخصيًّا له واختبر نعمتَه العظيمة. نعم، هذا هو معنى الخلاص أن يخلِّصك الله من الموت الروحي نتيجةَ الخطية لأن “النفس التي تخطئ هي تموت.” (حزقيال 20:18) أما المسيح فلقد أتى لكي يموت بدلًا عنك ويرفعَ عنك عقاب الموت الأبدي. والله يقدِّم لكل إنسان هذا الخلاص مجانًا وليس ادِّعاءً كما نسمع في الدِّعايات هنا في أميركا حين يروّجون عن رحَلات يُمكنُ ربحُها بالمجَّان. لكنْ سرعانَ ما تكتشف بعد قراءة التفاصيل بأنَّها مُكلِفة أكثر من أيَّة رحلة أخرى. ألم يقل الرسول: “عالمين أنَّكم افتُديتم لا بأشياءَ تفنى بفضة أو ذهب… بل بدم كريم، كما من حملٍ بلا عيب ولا دنس، دم المسيح” (1بطرس 18:1-19)؟ ويعود الإنسان ليقول أنا أستطيع أن أخلُصَ بأعمالي. ألا يقول الروح: “لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن بل بمقتضى رحمته خلَّصنا بغسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس” (تيطس 5:3)؟ نعم، وهنا تمسَّكت مريم العذراء بهذا المخلص العظيم وشهِدت بأنَّه “مخلّصها”.
والآن نجد كيف أكّدت أليصابات بكلامها عن مريم أنَّها كانت مميَّزة حقًا بإيمانها بسبب طاعتها. إذ قبِلَت دعوة الله لها مع كلِّ المخاطر المحيطة بها. فصارتِ الفتاةَ التي حَمَلتْ وهي لم تكن تعرفُ رجلًا بعد. ينبغي علينا هنا أن تكون لدينا قراءةٌ جديدة في كلمة المسيح. ونحن نُقاد بروحه. إذ كيف يمكن لفتاة أن تحمِلَ في شرقنا دون معرفة الأب؟! وبالطبع وبهذه الحالة فهي تستحقُّ الرَّجم. وظلَّت كلَّ حياتها تُعيَّرُ في التلمود اليهودي وحتى اليوم لأنَّها اعتُبرتْ غيرَ مستقيمة. وعليه حين قال اليهود للمسيح: “ألسنا نقول حسنًا: إنَّك سامريٌّ وبك شيطان؟” (يوحنا 48:8) كانوا فعلًا يعيِّرونه بأصلِه فالسامريّون كانوا شعبًا خليطًا بين اليهود والشعوب الأخرى كأشور وغيره من الأمم الوثنيين آنذاك. بمعنى آخر كانوا يتَّهمون الرب يسوع بأنَّه (ابن غير شرعي). لكنَّ العذراء الفتاة الطاهرة أطاعتْ واختارت الطريق الضيِّق وحملَت صليب العار والذُّلّ. هذا هو الاضطهاد الناتج عن حمْل رسالة المسيح. وهذا ما يميِّز العذراء المباركة إيمانُها الحي لأنَّها أحبَّت الرب فعلًا. يتميَّز شرقُنا بحبِّه للشعارات ويتغنَّى المؤمنون بإنشادهم: “أحبُّك ربي يسوع…” لكنَّ الرسول يوحنا ينبِّهنا: “يا أولادي، لا نحب بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق.” (1يوحنا 18:3) نعم، هذا هو الإيمان الحقيقي المضحّي والمتفاني الإيمان العامل الذي نراه في مريم العذراء. ليت الرب يعطينا إيمانًا كهذا إيمانًا يعيدُ للإنسان كرامته. وهو أيضًا الإيمان المتواضع إذ عندما تكلَّمت أليصابات وقالت: “مباركة أنتِ في النساء”، لم تُثْنِ مريم على كلامها. بل أجابت: “تعظِّم نفسي الرب وتبتهج روحي بالله مخلّصي، لأنه نظرَ إلى اتِّضاع أمَتِه.” أي كانت تعترف بأنَّها آنية وعَبْدة عند الله. كسَرت نفسها أمامه. أخي، إذا أردتَ أن يستخدمَك الرب فلا بدَّ أن تتواضعَ وتنكسر أمامه. إذا كانت مريم العذراء قد صرَّحت بهذا فكم بالحري نحنُ المزدرى وغيرُ الموجود؟ فلِما لا نتبع مثالها العظيم إذن إن كنا نحبُّها فعلا!؟ لم تُصَلِّ لإبراهيم أو القديسين بل كانت تتكلّم مع الرب مباشرةً. فالصلاة واضحة في الكتاب المقدس بأنَّها للرب وحده الحيّ والموجود في كل مكان. “ها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.” (متى 20:28ب) قد تقول إنَّ القديسين أحياءٌ في السماء. نعم، لكنَّهم متغرِّبون عن الجسد. فالذين ماتوا ورقَدوا عبَروا من هذه الحياة المادية إلى محضر الله. ولم يعدْ لهم صِلَةٌ بنا. “أيُسأل الموتى لأجل الأحياء؟” (إشعياء 19:8ب) نعم، هو الوحيد الحيُّ والذي “يريد أنَّ جميع الناس يخلصون وإلى معرفة الحق يُقبلون.” (1تيموثاوس 4:2) وهو الذي قال عن نفسه: “أنا هو الطريق والحق والحياة.” (يوحنا 6:14) وهو أيضًا: “الوسيطُ الوحيد بين الله والناس.” (1تيموثاوس 5:2) لماذا؟ لأنَّه هو الوحيد الذي مات لأجلك.
تمسَّكَتْ بصحة الكلمة والمواعيد
قالت مريم العذراء المباركة للخدَم في عرس قانا الجليل: “مهما قال لكم فافعلوهُ.” (يوحنا 5:2) هذه الدعوة ليست فقط للخدّام بل لكل مَن يحبُّ الرب. كلمة المسيح عليك لا أن تسمعَها فقط بل أن تطيعَها أيضًا. حين سألتْ مريم وإخوتُه عنه أجاب المسيح وقال: “أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلمة الله ويعملون بها.” (لوقا 21:8) يتضايقُ أحيانًا الإنسان المؤمن الخادم ويتذمَّر ويتساءل: لماذا المرض؟ لماذا الألم؟ أمَّا العذراء التي ائتمنها الله على ابن محبته فلم تفعل ذلك. هي التي كانت حامل في شهرها التاسع ولم تجدْ لها مكانًا تأوي إليه لتَلدَ فيه! ثم بعد ذلك، لم تسَلْ قطُّ لماذا الاضطهاد ولماذا الهروب إلى مصر مع الولد؟ لكنَّها بالرغم من كل ذلك كانت تعظِّم الرب وتشكره. فعلًا ما هذا الامتياز؟ كانت تخبِّئ كل ذلك في قلبها حتى جازَ في نفسها سيفُ الألم في النهاية مخترقًا قلبها عند الصليب.
كل ما قالته مريم للملاك إذ ذاك: “ليكن لي كقولك.” أما أليصابات فقالت: “طوبى للتي آمنت بكلّ ما قيل لها.” نعم، هذه الامرأة العظيمة كانت تسير على ضوء كلمة الله التي هي نور لسبيلها والتي تعكس صورة المسيح.
رسم الفنَّان المشهور مايكل أنجلو صورة رائعة للمسيح وهو يمدُّ يده إلى الآب في سقف إحدى الكنائس في أوروبا. لكن ونظرًا لعلوِّ السقف الشاسع عن الأرض، لم يستطع العابدون رؤيةَ الصورة. فاقترح مايكل أنجلو أن يضعوا مرآةً كبيرة لتعكسَ الصورة بكاملها، وهذا ما حصل بالضبط. ونحن أيضًا أحبائي: “جميعًا ناظرين مجدَ الرب بوجه مكشوف، كما في مرآة نتغيَّر إلى تلك الصورة عينِها، من مجد إلى مجد، كما من الرب الروح.”
تعظّم الربَّ بفرحٍ مجيد
إذا كنت تمرّ بظروف صعبة أو سبق واجتزتَ بآلامٍ في الماضي أو ربَّما ستواجه تجارب في الغد، أؤكِّد لك أنَّ فرحَ الرب هو وحده قوَّتُك. فقط ثبِّت أنظارك عليه. لأنَّه وحده يحوِّل كلَّ الأشياء إلى الخير. هل سمعت بالمبشر الذي خدم في رومانيا Richard Wurmbrand؟ قضى هذا المؤمن الفذّ 14 سنة في السجن بسبب إيمانه وخدمته للمسيح. دخل إلى غرفته مرةً أحد المؤمنين حديثًا، وكان يتذمّر ويتساءل لماذا يسمح الله بهذه الآلام؟ فقال له ريتشارد:
لا تخف يا ابني، تمسَّك بمواعيد الرب وثبِّت نظرَك عليه وحده. ولا تقلْ: لماذا؟
كانت مريم تقول: “تبتهج روحي بالله مخلصي.” أما صاحب المزامير فقال: ليبتهجْ ويفرحْ بكَ جميعُ طالبيك. (مزمور 16:40) ويقول بولس الرسول: “افرحوا في الرب كل حين وأقول أيضًا افرحوا.” (فيلبي 4:4)