أينما كنا وحيثما حللنا نسمع الناس يتحدثون عن النجاح، ويغبطون الناجحين في مجالات كثيرة في هذه الحياة، ويتمنون أن يكونوا هم أيضاً على غرار هؤلاء. كما أن البعض ينظرون إلى نجاحات الآخرين نظرات حاسدة وكأن الفرد منهم يقول في نفسه ”أنا أذكى وأفضل، أنا متعلم أكثر، وأنا مستحق النجاح أكثر“. ثم يقول: إنه الحظ يرفع الذين يحالفهم
ومن المعتاد أن نرى الرجال يجدُّون للنجاح في أعمالهم، والنساء يسعين للنجاح في بيوتهن وفي مجالاتهن، والشباب يكدّون للنجاح في مدارسهم وجامعاتهم. وفي كل جلسة تسمع حديثاً عن إنسان ما ناجح في مجاله الخاص هنا أو هناك، فتسمع عن ذلك الذي نجح مادياً وتلك التي نجحت علمياً، وآخرين ثقافياً أو اجتماعياً، أو سياسياً، وعلى مقدار ما توجد نشاطات وحاجات لبني البشر فإن الناس يعتبرون تحقيق هذه الحاجات بشكل جيد نجاحاً.
جميعنا نتمنى النجاح ونسعى إليه في المجالات الحياتية التي تهمنا كما نتمناه لذوينا ولأولادنا ولجميع الذي نحبهم. هو شيء جيد وجميل أن يكون الإنسان ناجحاً، ولكن هناك أمور يحسبها الناس نجاحاً ولكنها ليست كذلك في نظر الله بل هي سقوط وخسران وفشل.
¨ تاجر يكسب أمواله بالغش فتصبح له تجارة كبيرة… يعده الناس نجاحاً.
¨ موظف يثري من الرشوة وسرقة الأموال العامة، يقولون بالمثل العامي ”حلال على الشاطر“.
¨ طالب يغش في امتحاناته فيحصل على علامات عالية… يُقيمون له احتفالاً ”مبروك“.
¨ شخص يدبر أموره بالكذب والدهاء والحيلة، يقولون عنه: ”يأخذها من فم الأسد“.
¨ إنسان يتظاهر بالتقوى ويخفي في قناعه أموراً شريرة بحرص، يقولون عنه: إنه مؤمن متمسك بالدين وعائش بالتقوى.
يقول الكتاب المقدس في مزمور 7:37 ”ولا تغر من الذي ينجح في طريقه من الرجل المجري مكايد“. لكن ما أجمل تلك الزنبقة النابتة بين الشوك التي نرى صورتها في ذلك الشاب ”وكان الرب مع يوسف فكان رجلاً ناجحاً وكان في بيت سيده المصري“ (تكوين 2:39). فلو تأملنا في هذه الآية جيداً وراجعنا وضع يوسف وهو في بيت سيده المصري لرأينا من وجهة النظر البشرية أنه كان في أقصى درجات الفشل، فهو الابن المدلل لرجل أمير في مكانه ولكنه اقتُلع من بيت أبيه وحُسد من إخوته وأُبغض. احتالوا عليه ليميتوه ثم عرّوه من قميصه الملوّن وتدخلت يد الله فلم يمت، فباعوه لتجار إسمعيليين بعشرين من الفضة، وهؤلاء أخذوه إلى مصر وباعوه عبداً في سوق النخاسة، وكان يخدم في بيت فوطيفار، فهل سمعتم عن مسلسل للتعاسة أبشع من هذا؟ ولكن كلمة الله الصادقة تقول إنه كان ناجحاً، فقد كان ناجحاً في نظر الله، ولكن لنتأمل بعناصر نجاحه تلك:
أولاً: كان رجلاً ناجحاً أخلاقياً
ما أكثر الذين انزلقوا في مهاوي الأخلاق السيئة في هذه الأيام وحتى بعض الذين تربوا في بيوت مسيحية، فأنت تسمع عنهم الأخبار المحزنة، لكن يوسف هذا فقد:
كان أميناً
كان أميناً كما يحدثنا الفصل الكتابي في تكوين 3:39-6. لم يبذّر أو يفرّط في أموال سيده الذي اشتراه عبداً، ولكنه كان يعمل بأمانة حتى بارك الله بيت فوطيفار بسببه وليس بسبب أمانته فقط، بل لأن الله يهيل إكرامه على الشخص الأمين.
كان عفيفاً
كان عفيفاً محافظاً على جسده من خطية النجاسة (عدد 7-14). فقد كان ذا أخلاق عالية لم يفعل أي شيء يعتبره خطية في نظر الله، وكان يعتبر الخطية موجهة مباشرة ضد الله، قال: ”فكيف أصنع هذا الشر العظيم وأخطئ إلى الله“ (عدد 7).
ثانياً: كان رجلاً ناجحاً نفسياً
ما أكثر أصحاب الأجسام السليمة التي تضمّ في دواخلها نفوساً مريضة مليئة بالحقد، والضغينة، والحسد، والبغضة، وفكر الشر. أما هذا الرجل فرغم كل الذي حدث والذي فعله به إخوته فلم يحقد عليهم ولم يتوعدهم، بل أحبهم بصدق وإخلاص.
استهزأوا به: ”جاء صاحب الأحلام“،
أبغضوه ولم يستطيعوا أن يُكلموه بسلام“.
تآمروا عليه لإهلاكه، ”طرحوه في البئر“ لكي يموت بعد أن خلعوا عنه قميصه الملوّن الذي عليه ”ثم جلسوا ليأكلوا طعاماً“ فما أشدّ قساوة قلوبهم.
باعوه بثمن بخس واعتبروا هذا كرم أخلاق منهم لأنهم لم يقتلوه ويخفوا دمه. فلو كنا مكانه فماذا نفعل؟ ولا سيما بعد أن أصبح متمكناً منهم ويستطيع أن يفعل بهم ما يشاء. وقد جاءوا إليه صدفة ليشتروا طعاماً بعد أن حلت سنوات القحط. ولكن الكتاب المقدس يرينا كم كانت معاملته لهم طيبة وهو حاكم ومتسلط على كل أرض مصر. وما أروع تعبير الكلمات المكتوبة عن ردة فعله على رسالة إخوته بعد أن مات أبوه ”ولما رأى إخوة يوسف أن أباهم قد مات قالوا لعلّ يوسف يضطهدنا ويرد علينا جميع الشر الذي صنعنا به، فأوصوا إلى يوسف قائلين: أبوك أوصى قبل موته قائلاً آه اصفح عن ذنب إخوتك وخطيتهم فإنهم صنعوا بك شراً، والآن اصفح عن ذنب عبيد إله أبيك، فبكى يوسف حين كلموه“. كم كانت تلك النفس صافية وشفافة وكم كان ذلك الرجل صفوحاً غافراً لمن أساء إليه غفراناً كاملاً، وكأنه رغم عهده كان يطبق كلمات المسيح في الموعظة على الجبل التي تقول: ”وأما أنا فأقول لكم لا تقاوموا الشر بل من لطمك على خدّك الأيمن فحوّل له الآخر أيضاً“ (متى 39:5). وكذلك قوله: ”أحبوا أعداءكم باركوا لاعنيكم أحسنوا إلى مبغضيكم وصلوا لأجل الذي يسيئون إليكم ويطردونكم“ (متى 44:5).
”وأتى إخوته أيضاً ووقفوا أمامه قائلين: ها نحن عبيدك. فقال لهم يوسف: لا تخافوا. لأنه هل أنا مكان الله؟ أنتم قصدتم لي شراً، أما الله فقصد به خيراً، لكي يفعل منا اليوم، ليُحيي شعباً كثيراً“ (تكوين 18:50-20).
فهل نحن ناجحون نفسياً كيوسف فنحب إخوتنا ونسامح ونصفح، أم نحن نبغض ونحقد ونقبح بالأنانية والكبرياء وحب الذات؟
ثالثاً: كان ناجحاً روحياً
النجاح الروحي هو الأهم. نحن نقرأ أكثر من مرة أن الرب كان معه ومهما صنع كان الرب ينجحه. فوجود الرب مع يوسف كان السبب الرئيسي لنجاحه ويكون الرب مع الإنسان إذا أراد الشخص أن يكون مع الرب.
لقد كان ملتصقاً بالرب.
لم يتركه رغم كل الظروف التي مرت به من صعوبات، وفقر، وعبودية، وسجن. كما لم يترك الرب رغم الغنى والجاه أيضاً.
جعل الرب أولاً في كل شيء قبل الشهرة وقبل المركز وقبل نفسه أيضاً.
كان أميناً للرب في حياته رغم المغريات وكان يعتبر الخطية موجهة ضد الله نفسه.
فمن كان يقدر أن يمنع يوسف من ارتكاب الخطية مع امرأة فوطيفار والظروف كلها كانت مهيئة له؟ ربما لو كان شخص آخر مكانه لفكر أن يرتقي عن طريق التقرّب إلى امرأة سيده. ولكن لو فعل ذلك لأصبح عبداً مضاعفاً: عبداً لفوطيفار وعبداً للخطية.
لم يكن يطلب مجد نفسه بل مجد الرب.
فحين التقاه فرعون لأول مرة لتفسير حلمه قال فرعون: ”أنا سمعت عنك قولاً أنك تسمع أحلاماً لتعبّرها“ (أي لتفسّرها)، فأجاب يوسف فرعون قائلاً: ”ليس لي. الرب يجيب بسلامة فرعون“.
وكانت حياته شهادة للرب.
”فقال فرعون لعبيده: هل نجد مثل هذا رجلاً فيه روح الله؟“
قارئي الكريم، إن النجاح الذي قد نحرزه في مجالات كثيرة في هذه الحياة لا يدوم. فكثيرون أصبحوا علماء، وبعضهم اكتشف أشياء نافعة، وآخرون اكتشفوا البارود والمتفجرات والذرّة لقتل الناس والقضاء على الآخرين، وآخرون نجحوا سياسياً، وغيرهم جمعوا ثروات طائلة، ولكن جميع هذه النجاحات مآلها الفناء. وأما النجاح الحقيقي الذي يمكن أن نحصل عليه فهو أن يذخر المرء لنفسه كنزاً لدى الله بأن يكون ناجحاً في نظر الرب وهو على هذه الأرض، وهذا هو النجاح الوحيد الذي سيرافقك ويدوم لك في الأبدية وليس سواه.