نـــور للنفوس الحائرة

صفوت تادرس

لماذا يموت هذا الشاب اليافع ولم يفرح بعد بنجاح وتفوق قد حققه؟! ولماذا يموت ذاك النافع ولم يتمتَّع بعد بمولوُده الجديد الذي أنجبه؟! ولماذا يُحرم الزوج من امرأة شبابه هكذا وبسرعة؟! ولماذا لم يهنأ فلان بالبيت الجديد الذي بناه أو الشقة الجديدة التي اقتناها؟! لماذا ولماذا؟!

أسئلة كثيرة مُربِكة ومُحيّرة، ونقف أمامها صامتين مصدومين، سارحين وغير فاهمين، ورغم أننا ليست لدينا إجابات على كل مثل هذه التساؤلات وغيرها، إلا إن الرب لم يحرمنا من نور كلمته.

لذلك يطيب لي في البداية أن أسرد قصة الراعي الذي حاول أن يأخذ غنمه، ويعبر بها إلى الشاطئ الآخر من الجزيرة حيث الأمان الوفير والمرعى النضير، ولكي يصل القطيع لهذا المكان الجميل كان لا بد له من خوض ممرًا مائيًا، ضيقًا وصعبًا، وكان القطيع لا يرغب ولا يريد أن ينزل في الطين وفي الوحل، وابتعد قطيع الغنم عن الراعي، ولأن الشمس كانت ذاهبة إلى المغيب، واقترب الليل بظلامه الدامس المخيف، لذا ذهب الراعي إلى إحدى النعاج الكبيرة وأخذ منها حملها الوحيد والصغير ووضعه على منكبيه، ونزل به إلى الماء قاصدًا الشاطئ الآخر والبعيد، هناك حيث الأعشاب الكثيرة والراحة الوفيرة، وعندما رأت الأم أن ابنها قد أُخذ منها، لم تجد شيئًا لتعمله سوى أن تتبع الراعي، الذي حمل ابنها، وهي تسلمه له في خضوع تام، وهكذا سار معها بقية القطيع.

أذكر هذه القصة القديمة وقلبي ينفطم على شباب غابت شمسهم وإذ بعدُ نهار، وقد أراد الراعي الحبيب والحكيم أن ينقله إلى الجانب الآخر، بعيدًا عن هذا العالم، حيث لا أحزان، ولا أوجاع، هناك حيث تغيب الدموع كما ذكر يوحنا في رؤياه «والبحر لا يوجد فيما بعد» لا موت ولا حزن ولا وجع ولا لعنة ولا ليل، هناك يغيب المرض، لا إشِّعات ولا جلسات، لا كي، ولا عمليات، بل يمضي الليل بدموعه الغزيرة، وآهاته الكثيرة، ومن وجه الشر يضم الصديق إذ يودِّع ظلم الحياة وكدر العيش، عندما نرى حبيبنا وفادينا في العرش، هناك مع المسيح الحنان، حيث الأمان الكامل، والسلام المطلق. إنَّا هنا نتقدَّم لكل مجروح قد سمحت الحكمة الإلهية بأخذ حبيب له أو قريب، لكل زوجة أو زوج حمل الراعي شريكه في الحياة إلى شاطئ السلام. ولكل أم ترفض التعزية، ولكل أخ يأبى الكلمة الإلهية، لهؤلاء المجروحين المكسورين نفتح لهم نوافذ السماء، حيث النور الإلهي لكل نفس مسكينة حائرة.

أولاً: إن «الله أمين، فلا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون بل سيجعل مع التجربة أيضًا المنفذ لكي تستطيعوا أن تحتملوا» (1كونثوس10: 13). إنه – تبارك وعلا اسمه – ليس كمهندسين هذا الزمان الذين يحَمِّلون على المبنى أدوارا زائدة لا يحملها فتسقط وتنهار على من فيها، بل هو رب حكيم وأمين، يعمل بدِّقة وحنكة ودراية. لذا ليتنا نسلم له، إنه إله أمين.

ثانيًا: الله يرغب لنا ولكم في أن نحول عيوننا عن الأمواج الهائجة ونصغي لصوت محبته ونميِّزه وهو يقول لنا: «تشجعوا. أنا هو، لا تخافوا» (متى14: 27). فقد تشغلنا الأحداث وتربكنا الأمواج وننسى صانعها والمسيطر عليها.

ثالثًا: أحيانًا يأخذ الرب منا أغلى ما عندنا، نور أعيننا، أولادنا فلذات أكبادنا، حتى نراجع تاريخنا، ونفحص دوافعنا، ونتذكر ماضينا، ونكتشف ما فينا، فإن وجدنا إثمًا نصرخ من أعماقنا لنقول كما قالت أرملة صرفة لإيليا النبي: «هل جئت إليّ لتذكير إثمي، وإماتة ابني؟». وقد حقَّق الرب قصده؛ فرجعت المرأة إلى الله بتوبة صادقة كما «رجعت نفس الولد إلى جوفه فعاش» (1ملوك17).

رابعًا: يقينًا سنكتشف آفاقًا جديدة وأعماقًا جديدة؛ فالنسور الصغيرة لا يمكنها اكتشاف قوة أجنحتها إلا إذا تركت أعشاشها، كذلك الله في حكمته السامية ومحبته الفائقة إن حرَّك العُشّ فلنا أذرعه الأبدية من تحت تحملنا.

خامسًا: نهاية أمر خير من بدايته، والعبرة بالنهاية، «ولكن كل تأديب في الحاضر لا يُرى أنه للفرح بل للحزن، وأما أخيرًا فيعطى الذين يتدربون به ثمر بر للسلام» (عبرانيين12: 11).

سادسًا: إن الدموع التي نذرفها هي معلومة ومحسوبة عنده فيقول داود: «اجعل أنت دموعي في زقك… أَمَا هي في سفرك» (مزمور56: 8). وهذا ما قاله الرب لحزقيا «سمعت صلاتك… رأيت دموعك» (إشعياء38: 5).

سابعًا: إننا نتوجه للقلوب الكسيرة والنفوس الذليلة التي تذرف الدموع، يومًا بعد يوم، وليلة بعد ليلة، لنقول لها: إن الحال لن يستمر هكذا، لأنه حتمًا وذا قريب سيأتي الرب يسوع نفسه، ويأخذنا إليه، وهناك يمسح كل الدموع (رؤيا21: 4). لن يكلِّف واحد من الملائكة ليقوم بهذه الخدمة المباركة، بل هو بنفسه سيمسح كل دمعة من عيوننا، فالعيون التي أتعبتها وأحرقتها دموع الحزن والظلم، دموع الألم والفراق، لن تعود مرة أخرى لتذرف الدموع، كيف هذا والرب لنا ومعنا وفينا؟!

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *