قرأت مؤخراً قصة واقعية في مجلة “ريدرز دايجست” عن صاحب بنك في فلوريدا جنى أرباحاً طائلة زادت عن الستين مليوناً من الدولارات، فقرر أن يوزّع القسم الأكبر من هذه الأرباح على الموظفين حتى المتقاعدين منهم على أساس عدد سنوات خدمة كل واحد منهم في مؤسسته. ولقد حاول أن يقدم على هذا العمل من غير إعلان. ولكن، كما يبدو، شاع الخبر فاجتمعت الصحافة وممثلو وكالات الإذاعة والتلفزيون لأن مثل هذا الحدث لم يكن بالأمر العادي. وعندما سُئل عما دعاه أن يسخو بهذا المبلغ الكبير على موظفيه، أجاب:
– حقاً أنا صاحب البنك، ولكن نجاح هذا البنك قام على جهود موظفيه وأمانتهم في الخدمة، فشعرت أن لهؤلاء الموظفين حقوقاً في هذا البنك وأنهم يشاركونني في امتلاكه.
أثارت هذه الحادثة في ذهني جملة خواطر حملتني بعيداً إلى ذلك اليوم المجيد، يوم ميلاد خالق السماوات والأرض الذي أخذ صورة عبد، صائراً في شبه الناس، وكيف أنه تخلّى عن كل أمجاده التي كانت له منذ الأزل، وتجسّد لغرض واحدٍ هو خلاص الجنس البشري من لعنة الخطية، وعبودية إبليس.
صحيح هناك فوارق عدة ما بين هذه القصة الواقعية وبين عمل المسيح الكفاري، وما بذله من تضحيات من أجل إنقاذنا من الدينونة الأبدية. ولكن هناك أيضاً وجوه تشابه تسترعي انتباهنا ويجدر بنا أن نتأمل بها ونعتبر مغازيها:
أولاً: وأول هذه الدروس أن خلاصنا وموت المسيح على الصليب من أجلنا ليس نتيجة لجدارة فينا. لم يكن صاحب العمل مرغماً أن يوزع تلك الملايين على موظفيه ولكن من فرط تقديره اتّخذ هذا القرار اختياراً، فكافأهم على جهودهم وإخلاصهم. كذلك المسيح بذل نفسه فداء عنا اختياراً وليس قسراً، مع فارق واحدٍ أن فداء المسيح للجنس البشري كان شاملاً للجميع من غير استثناء لأنه استهدف خلاص كل نفس. إننا أعداء المسيح بالخطيئة، ولولا هذه الخطيئة لما كان المسيح في حاجة لكي يأتي إلى هذا العالم ليُصلب ويبذل نفسه فدية عن كثيرين. إننا لم نقم بأي عمل يحظى برضى الله الكامل، بل إن خطايانا استجلبت غضب الله علينا، لأن الجميع أخطأوا وأعوزهم مجد الله. لا أحد يستطيع أن يتبرّر أمام قضائه، ولا يمكننا أن نعتمد على صلاحنا، وحسن نياتنا، فكل أعمالنا كخِلَقٍ بالية تُلقى في سلة المهملات. إن موظفي صاحب البنك قد خدموه بأمانة فحظوا بحسن المكافأة. أما نحن، فأية خدمة قمنا بها حتى نكافأ عليها بدم المسيح المسفوك من أجل تحريرنا من أصفاد العبودية وضمان، حياتنا الأبدية؟ كان في وسع الله أن يهلك البشرية كما فعل في حقبة الطوفان، أو كما أفنى مدينتي سدوم وعمورة. ولكن رحمته بل محبته فاقت كل تصوّر وفهم.
ثانياً: لقد وزّع صاحب البنك جزءاً من ثروته، أما المسيح فأعطى ذاته، وآثر أن يموت على الصليب من غير تردّد لأن همه الأول ليس ذاته بل افتداء الإنسان ليعيد العلاقة الإلهية – الإنسانية إلى ما كانت عليه قبل السقوط. قد يصعب علينا أن نستوعب هذه الحقيقة؛ والواقع عدم إدراكنا العقلي لهذه الحقيقة هي نعمة من الله. لا شك أن موظفي البنك عندما أعلن لهم صاحبه الأخبار السارة لم يعوا بادئ ذي بدء ما هي الأسباب التي دعته أن يُقدِم على هذه الخطوة الكريمة ولا سيما أن لا أحد منهم كان يتوقع هذه المكافأة الجزيلة. فهم كانوا يقومون بواجباتهم لقاء رواتبهم الشهرية، أما نحن، عندما نفكر بموقف المسيح وأن موته على الصليب لم يكن كمكافأة لنا على خدماتنا، نجد أنفسنا نواجه معضلة فكرية ونفسية وروحية وعاطفية. علينا أن نتساءل: لماذا أقدم المسيح على هذه التضحية التي لا نظير لها في التاريخ لأنها لم تكن تضحية عادية بل تضحية حمل فيها البار أعباء خطية الإنسان، بل صار خطيئة من أجلنا. إن صاحب البنك لم يفقد كل ثروته وعاش فقيراً معدماً، ولكن المسيح لم يكن يجد حجراً أو مكاناً يضع عليه رأسه. فمنذ ولادته وجد نفسه يتوسّد مذود بقر تدفئ جسمه الطفل أنفاس الحيوانات التي أحاطت به. ولكنه، مع ذلك، لم يتوانَ لحظة واحدة أن يدفع الثمن الباهظ من أجل خطايانا. فلماذا فعل ذلك؟ أهي محبته العظيمة هي الدافع لتجسده وموته؟ يقول الكتاب المقدس في إنجيل يوحنا 16:3 “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ”. قد نقرأ هذه الآية التي يحفظها كل مؤمن ونرددها في مواعظنا، ولكن من منّا توقّف لحظة واحدة وأخذ يتأمّل بلفظة “هكذا”، وما هو معناها؟ وما هو الغرض من إيرادها؟ دعوني أيها الأحباء أن ألقي معكم نظرة جدية على هذه اللفظة “هكذا”. يبدو لي أن اللغة عجزت أن تحيط بمقدار محبة الله، فلم يجد الكاتب ما يعبّر عنها بغير هذه اللفظة “هكذا”، والصلة بين هذه اللفظة وعبارة “حتى بذل ابنه” هي صلة عضوية متداخلة في نسيج المحبة الإلهية، أي أن محبة الله للإنسان كانت بهذا المقدار بحيث دفعت الله أن يبذل ابنه ليموت عنا ويرفع عنا عقاب الدينونة. من منا يستطيع أن يسبر غور هذه المحبة؟ وأي عقل، مهما بلغ من الذكاء، قادر أن يلمّ بجوهرها؟ نحن رأينا نتائج هذه المحبة، ولكننا نعجز عن إدراك ماهيتها وعظمتها وما تشتمل عليه من بذل وعطاء.
لعلّ إبراهيم قد اقترب بعض الاقتراب من تبيّن بعض ملامح هذه المحبة عندما طلب الله إليه أن يقدّم ابنه وحيده ذبيحة. إن الكتاب المقدس لم يفصح عن خوالج إبراهيم، ولا مشاعره وهو يضع ابنه على المذبح فوق الحطب ليقدمه ذبيحة كما أمره الله. ولكن كل أب يدرك تمام الإدراك، حتى لو تعذّر عليه أن يعبّر عنه، عمق الألم الذي يمزّقه في الصميم.
من هنا انطلقت صرخة المسيح على الصليب: إلهي إلهي لماذا تركتني؟ هل حقاً ترك الله المسيح؟ في تلك اللحظة نعم، لأن ذلك يفي بمطاليب عملية الفداء ولو إلى حين. اقتضت محبة الله أن يتخذ هذا الموقف ليتمّم إنجاز الخطة الإلهية. ولولا ذلك لما حدث خلاص ولا تمّ الفداء.
ثالثاً: فضلاً عن محبة الله الفائقة التي عبّرت عن ذاتها على الصليب فإن سؤالاً آخر يراودنا ويستثير فينا الحيرة. ولقد ألقيت على نفسي هذا السؤال مراراً كثيرة قبل أن يجيبني الرب من خلال كلمته المقدسة. وهذا السؤال هو: لماذا أحبنا الله مثل هذا الحبّ؟ أي شيء فعلناه حتى نستحق هذه المحبة التي أسفرت عن كل هذه التضحيات والآلام؟ وهل نحن جديرون بهذه المحبة؟ فكّر معي يا قارئي، واطرح على نفسك بإخلاص وصدق هذه التساؤلات التي هي في أساس علاقتنا بالله. لقد عثرت على الجواب الذي أضاء ظلمات حيرتي في قوله تعالى في سفرالتكوين 26:1 “نعمل الإنسان على صورتنا كشبهنا”.
في رأيي أن هذه الآية هي السرّ الذي يحلّ لغز محبة الله للإنسان. إن الله إذ خلق الإنسان على صورته ومثاله فقد استودعه شيئاً من ذاته كما لم يفعل مع بقية المخلوقات حتى الملائكة. إن المثال الذي فينا كان مقدساً لأن القداسة كانت وما برحت جزءاً من طبيعة الله. وبالإضافة إلى ذلك فإن الله قد أنعم على الإنسان القدرة على الاختيار، والإبداع، وتذوّق الجمال، والتفكير، والمحبة، وسواها من الخصال التي تميّز بها جوهر الله. إذاً، لقد أغدق الله هذا الامتياز على الإنسان وحده، ولكن للأسف إن الإنسان قد شوّه صورة الله التي فيه بارتكاب الخطيئة؛ شوّه الوديعة التي ليست له بل هي ملك لخالقه، وعصى الإنسان ربّه فضلّ وراء أهوائه، فاتّسعت الهوّة، وازدادت الفجوة عمقاً، فعمّ الشر العالم، ولكن الله لم ينسَ وديعته، ولم يغفل عن الكنز المرصود الذي وهبه للإنسان ليحتفظ به نقياً مقدّساً، ولكن ابن آدم أخفق في الحفاظ على نقاوته، وشوّه ملامحه، ولطّخ معالمه.. مما أثار غضب الله. ولكن محبته غلبت على غضبه، وقال في نفسه: لا بُدّ أن أستردّ وديعتي وأنقّيها من الشوائب تماماً كما كانت عليه قبل السقوط. وهكذا بفضل صورة الله التي فينا التي يغار عليها ولا يرضى لأي مخلوقٍ أن يلوّثها بأدران الخطيئة إلى الأبد، جسّد محبته بابنه على الصليب من خلال عظمة قداسته وغيرته على صورته.
إن هذه الصورة الإلهية لمعاملات الله مع الإنسان مفعمة بالرهبة والجلال والمحبة والقداسة، وهي صورة لا يطرأ عليها تبديل؛ فالله لا ينسَ جوهر ذاته، ولا ينكث عهداً قطعه على نفسه، ولا يرضى لمخلوقاته أن تتطاول على ما هو ملكه؛ ولكن لفرط محبته بذل ابنه من أجلي ومن أجل كل خاطئ أثيم. وأصبحنا من جراء محبته والإيمان بفداء ابنه أبناء الملكوت لأن… كل الذين قبلوه (أي المسيح) أعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون باسمه، وأولاد الله هم ورثة وأحباء.
فخلاصنا، وحريتنا وميراثنا الأبدي ليست لاستحقاق فينا؛ ولا من أجل خدمات أسديناها، إنما هي رحمة ومحبة منه وقد ضمنها بنفسه عندما قال الوحي الإلهي: “وكل من يؤمن به فله حياة أبدية“.
أرجو يا قارئي العزيز أن أكون في هذا المقال القصير قد ألقيت القبس الضئيل على أمانة الله ومحبته لنا في علاقته مع مخلوقه المتمرّد، إذ فتح أمامه باب المصالحة والرجوع إليه.