عشيّة كل رأس سنة، يتجمّع الآلاف والملايين في ساحات المُدن الكبيرة، للاحتفال ببدء العام الجديد. ففي ساحة نيويورك تايمز تتّجه الأنظار إلى ما يسمّى بسقوط الكرة
Ball Drop
والعدّ التنازلي للدقيقة الأخيرة من السنة، ومن رقم 10 إلى 1 تبدأ الجماهير بصوت واحد العدّ العكسي، وبدخول الثانية الأولى من السنة الجديدة، تنطلق صيحات الفرح مع الألعاب النارية.
وبعد تبادل التهاني والأماني في جوٍّ من المرح والصخب، وانتهاء فرق العزف والأغاني، يذهب كل واحد إلى موضعه.
أما الناس الذين يُفضّلون الأجواء العائلية، فتجدهم يشاهدون التلفاز، وينتظرون العدّ العكسي أيضًا. إنّ احتفالية رأس السنة تعتبر أكبر حدث فيه نهتم بالعدّ التنازلي، وهناك مناسبات أخرى فيها أيضًا عدّ تنازلي، كالعودة إلى المدرسة، والمسابقات الرياضية أو الفكرية، وانطلاق الصواريخ إلى الفضاء، إلخ … ومن هنا نرى أنّ العدّ التنازلي متداخل في حياتنا، لنهاية شيء وبداية شيء آخر.
تعال معي لنكمل هذه المقالة، فنجد أن العدّ التنازلي ليس فقط مهمًّا جدًا في دخولنا السنة الجديدة، بل أيضًا يصبح له معنى وهدف لوجودنا على الأرض.
فالكتاب المقدس مليء بفكرة العدّ العكسي، وإليك بعض الأمثلة:
كان الله قد أعطى فرصة 120 سنة للتوبة قبل الطوفان، ولما حانت ساعة الصفر التي حدّدها الله، دخل نوح ثامنًا للفلك وأُغلِق الباب.
أما لشعب إسرائيل فكان يوم 14 نيسان يوم فداء ويوم خروج من مصر “وكان عند نهاية أربع مئة وثلاثين سنة في ذلك اليوم أن جميع أجناد الرب خرجت من أرض مصر.” (خروج 41:12) إنها بداية سنة جديدة ويوم جديد في حياة الشعب.
والمدينة العظيمة نينوى أُعطيت مُهلة أربعين يومًا وكان بعدها – إن لم تتب – تُقلب المدينة.
وعندما رفض شعب إسرائيل كلمة الله واتجهوا إلى الوثنية والطمع، أسلمهم الله للسبي لمدة سبعين سنة وعند نهايتها، تمت واكتملت النبوّة، لرجوع الشعب، وعاد البعض إلى أورشليم.
لكن المثال الذي نشترك به جميعًا، هو أننا غرباء على هذه الأرض في زيارة عابرة، ولكل واحد عدّ تنازلي فيه ننطلق للأبديّة. فالقائد العسكري يشوع قال قبل رحيله لشيوخ الشعب: “أنا ذاهب في طريق الأرض كلها.” (يشوع 14:23) وعند وقت اقتراب وفاة داود الملك، أوصى سليمان ابنه أن يسلك بوصايا الرب (1ملوك 1:2-2)، وكرر نفس العبارة التي قالها قبلًا يشوع: “أنا ذاهب في طريق الأرض كلها.”
وفي العهد الجديد، قال سمعان الشيخ: “والآن تُطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام لأنّ عينيّ قد أبصرتا خلاصك.” (لوقا 29:2-30) وقال بولس: “وقت انحلالي قد حضر.” (2تيموثاوس 6:4) وقال بطرس: “عالمًا أن خلع مسكني قريب.” (2بطرس 14:1)
إذًا، ألا تتفق معي أنّ لكل واحد منا عدًّا تنازليًّا لننطلق من هذا العالم المؤقت إلى الأبدية؟ فساعة الرحيل قد تأتي على كبار السن بموتهم الطبيعي؛ أو من خلال الحوادث والكوارث كالذين سقط عليهم البرج في سلوام (لوقا 4:13)؛ أو نتيجة الشر والجرائم كأطفال بيت لحم الذين لم يتجاوزوا السنتين (متى 16:2-18)؛ أو الموت الفجائي كالشاب الذي من مدينة نايين (لوقا 11:7-17)؛ أو بسبب الإرهاب كأولئك الذين كانوا يؤدون شعائرهم الدينية ويأتي حاكم إرهابي ويأمر بذبحهم وخلط دمائهم مع ذبائحهم (لوقا 1:13-3)؛ أو بسبب قضاء إلهي كالملك البابلي الذي كان يشرب الخمر في قصره في وليمة عظيمة ثم أتت عليه ساعة الصفر وهو لا يعلم (دانيآل 5). وهناك أخيتوفل الذي انتحر (2صموئيل 23:17) وكأنه كان يحاول أن يتلاعب بساعة رحيله، إنه موت بقيادة الشيطان.
من هذه الأمثلة رأينا أنّ لكل إنسان ساعة صفر، ساعة الرحيل، حتى أن العلم الحديث اكتشف بأن هناك أجزاء في الجينات الوراثية (Telomeres) لها علاقة بالأمراض وبعمر الإنسان – إنها نوع من العدّ التنازلي الطبيعي في خلايا أجسادنا، فمنذ ولادتنا هناك عدّ تنازلي نصل إليه ونغادر هذه الأرض، حتى أن يسوع قال: “قد أتت الساعة” (يوحنا 1:17)، وكان يقصد ساعة صلبه وموته.
العدّ التنازلي للأبدية قسمان:
العدّ التنازلي للهلاك الأبدي
أشبّهه باللص المستهزئ الذي كان يجهل أن يسوع هو المُخلّص الوحيد. إنه موت بدون خلاص والنهاية هلاك أبدي، وهو مثال المستهزئين بالخلاص الأبدي الذين يرفضون يسوع.
وفرعون ملك مصر، مثال آخر للعدّ التنازلي للهلاك، وهو مثال للكبرياء، الذي رأى معجزات الله ولكنه بقيَ معاندًا ومصممًا على التمسك بأصنام مصر.
وهناك جماهير في كل العالم، لا يعلمون مصيرهم الأبدي، هل هو مع الله أم في الجحيم؟ والسبب هو عدم معرفة محبة الله لهم المُعلنة في الكتاب المقدس (يوحنا 16:3)، أو هناك من يجهل خطورة تأجيل خلاصه، فيقول: أنا شاب، وهذا الكلام ينفع في أيام المشيب. ولكن الله يقول: “هوذا الآن وقت مقبول، هوذا الآن هو يوم خلاص.” (2كورنثوس 2:6)
العدّ التنازلي للحياة الأبدية
وأشبّهه باللص التائب (لوقا 23) الذي دخل الفردوس. أو مثل الرسول بولس الذي رغم علمه بأنه سيُقتل من أجل اسم المسيح، كان فرِحًا في السجن وكان يشتهي أن ينطلق ويكون مع المسيح، “لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح.” (فيلبي 21:1) ومثل بقية المؤمنين القديسين الذين سبقونا لمجد السماء. وهو عدّ تنازلي بفرح، ويبدأ بفرح الخلاص ونوال الحياة الأبدية، التي هي هبة الله، لأن الرب يسوع دفع أجرة خطايانا على الصليب، وقام منتصرًا، والنهاية انتظار مجيء المسيح ليأخذنا إلى منازل بيت الآب (يوحنا 2:14-3).
حتى وإن عشنا لـ 120 سنة سنجد أن الحياة قصيرة، إنها “بخار يظهر قليلًا ثم يضمحل.” (يعقوب 14:4) وصوت الأبدية الذي وضعه الله فينا، يهمس في فكرنا ويحذّرنا، لا تضيّع الفرصة، فمن يتجاهل رسالة الله له، التي هدفها أن تقود الإنسان إلى معرفة الله معرفة حقيقية ونوال الحياة الأبدية، فمصيره ضياع الفرصة وهو لا يعلم، بالضبط كالناس في أيام نوح.
أصلي من كل قلبي لكل من يقرأ الآن، أن يتوقف للحظات ويكون أمينًا مع نفسه، ويسأل: أين سأقضي الأبدية بعد نهاية العدّ التنازلي لأيام حياتي؟ في السماء أم في الجحيم؟
وأي عدّ تنازلي تعدّ؟
هل تعدّ تنازليًا بالخوف والغموض من مصيرك الأبدي؟ أم بالفرح والسلام؟
أخيرًا، أقول للأحباء القديسين: هل نحن ننتظر بفرح العدّ التنازلي لمجيء ربنا يسوع المسيح؟
يقول الكتاب: “قد تناهى الليل وتقارب النهار…” (رومية 12:13)
هل لنا أشواق المرنم القائل: “وأكثر ممن يرقُب الصباح نعدّ ساعات الليل؟”
لنتذكر قول الكتاب: “وإنما نهاية كل شيء قد اقتربت. فتعقلوا واصحوا للصلوات.” (1بطرس 7:4)
في كل يوم يمضي نستطيع أن نقول لفادينا وحبيبنا يسوع، لقد أصبح موعد لقائنا على السحاب أقرب من أمس، لذا فلنحيا حياة ترضيه وتفرّح قلبه، وليتنا نصلي لتزداد أشواقنا لرؤية مُخلّصنا، فنراه وجهًا لوجه، فنفرح ونتهلّل منذ الآن.