لماذا وُلد من عذراء؟

راديو مياه الراحة

تساؤل طرحناه في مقال سابق بين تساؤلات أخرى كانت حول هوية المسيح ومن ترى يكون… لماذا تميّز المسيح عن باقي الناس فوُلد من عذراء لم يمسسها رجل؟ وماذا يعني ذلك طالما أن الولادة العذراوية لم يعرف بها الناس عبر الخمسين سنة الأولى بعد ميلاد المسيح، وبقيَ سرّ الكتمان خفياً إلى أن كُتبت الأناجيل في بدايات النصف الثاني من القرن الأول للميلاد؟! فالناس لم يعلموا بمعجزة الولادة من عذراء إلا بعد صعود المسيح إلى السماء ببضعة عشرات من السنين!… ففي إنجيل متى الأصحاح الأول نقرأ ما يلي: ”أَمَّا وِلاَدَةُ يَسُوعَ الْمَسِيحِ فَكَانَتْ هكَذَا: لَمَّا كَانَتْ مَرْيَمُ أُمُّهُ مَخْطُوبَةً لِيُوسُفَ، قَبْلَ أَنْ يَجْتَمِعَا، وُجِدَتْ حُبْلَى مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَيُوسُفُ رَجُلُهَا إِذْ كَانَ بَارًّا، وَلَمْ يَشَأْ أَنْ يُشْهِرَهَا، أَرَادَ تَخْلِيَتَهَا سِرًّا. وَلكِنْ فِيمَا هُوَ مُتَفَكِّرٌ فِي هذِهِ الأُمُورِ، إِذَا مَلاَكُ الرَّبِّ قَدْ ظَهَرَ لَهُ فِي حُلْمٍ قَائِلاً:

يَا يُوسُفُ ابْنَ دَاوُدَ، لاَ تَخَفْ أَنْ تَأْخُذَ مَرْيَمَ امْرَأَتَكَ. لأَنَّ الَّذِي حُبِلَ بِهِ فِيهَا هُوَ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ. فَسَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ يَسُوعَ. لأَنَّهُ يُخَلِّصُ شَعْبَهُ مِنْ خَطَايَاهُمْ. وَهذَا كُلُّهُ كَانَ لِكَيْ يَتِمَّ مَا قِيلَ مِنَ الرَّبِّ بِالنَّبِيِّ الْقَائِلِ: هُوَذَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا، وَيَدْعُونَ اسْمَهُ عِمَّانُوئِيلَ الَّذِي تَفْسِيرُهُ: اَللهُ مَعَنَا. فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ يُوسُفُ مِنَ النَّوْمِ فَعَلَ كَمَا أَمَرَهُ مَلاَكُ الرَّبِّ، وَأَخَذَ امْرَأَتَهُ. وَلَمْ يَعْرِفْهَا حَتَّى وَلَدَتِ ابْنَهَا الْبِكْرَ. وَدَعَا اسْمَهُ يَسُوعَ“ (متى 18:1-25).

بهذا تكون العائلة قد التأمت؛ فيوسف في نظر المجتمع زوج لمريم ومريم زوجة له. والحَبَل الذي تنامى أمام عيون الناس كان شيئاً طبيعياً، فبقيت قصة الحبل العذراوي غائبة عن أذهان العيان، واحتفظت مريم بسمعتها النقية التي تستحقها، إذ رتّب الله أن يكون لها زوج يأخذ مكان الأب في نظر الناس، ليحمي الفتاة من ألسنة العامة. ثم يخبرنا إنجيل لوقا بأن الدولة الحاكمة آنذاك أعلنت عن حملةٍ إحصائيةٍ تشمل جميع مواطنيها وأنّ على كلّ مواطنٍ أن يكتتب في بلده الأصلي. ولأن مريم ويوسف رجلها هما أصلاً من منطقة بيت لحم، فكان عليهما أن يُسافرا إلى بيت لحم ليكتتبا هناك. فجاءا إليها وكانت مريم في شهرها التاسع، والرحلة طويلة مرهقة، وغالباً ما استعملا دابة في السفر. ولما وصلا المدينة لم يجدا مكاناً في الفندق، إذ سبقهما آخرون قدِموا للاكتتاب، والمدينة امتلأت بنزلائها، اضطرّا أن ينزلا في ما يُسمّى بحظيرة للأبقار والأغنام بانتظار إجراءات الاكتتاب. وبينما هما في هذه الحال، تمّت أيامها لتلد، فولدت ابنها البكر وقمّطته وأضجعته في المذود، والمذود صندوق خشبي طويل مجوّف قد يصل إلى مترين أو أكثر ولا غطاء له يستخدم لوضع التبن والأعلاف لتأكل منه الحيوانات، فكان ذاك هو السرير الذي اضطجع فيه المسيح في أيامه الأولى بعد ولادته.

فهل خطر ببال أحد: لماذا وُجد يوسف ابن هالي في حياة العذراء؟ وما دور يوسف في حياة مريم؟ لماذا ارتبط بها أنْ طالما رتّب الله أن يُولد المسيح من عذراء لا يُدانيها رجل؟! ووجود يوسف في حياة العذراء كان غطاءاً مرتباً من الله لدرء الشك في سمعتها ولذلك لم يُسجل على الإطلاق أيُّ تسريب للشك في طهر العذراء، لأن الظاهر للعيان كان أمراً طبيعياً، فهوذا الطفل يسوع في حضن أمّه، وتلك أمه مريم، وذاك يوسف أبوه، فالعائلة مكتملةبجميع عناصرها، ولذلك قال الوحي في إنجيل لوقا الأصحاح الثالث:

“ولما ابتدأ يسوع (خدمته النبوية) كان له نحو ثلاثين سنة، وهو على ما كان يُظَنّ ابن يوسف ابن هالي”. إذاً كان يسوع في ظنّ الناس من حولهم هو ابن يوسف؛ فالحبل العذراوي بقي في طيّ الكتمان.

وهناك شاهدٌ آخر، ففي إنجيل لوقا الأصحاح الرابع مشهد نقرأ فيه أن يسوع وقف في مجمع لليهود في مدينة الناصرة حيث كان هو يقيم، فقدّموا له سفر إشعياء ليقرأ فقرأ وعلّق على ما قرأه ببيانٍ رائع. ويقول الإنجيل إن جميع الذين كانوا في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه مذهولةٌ وهو يتكلم بما سمعته منه، فابتدأوا يقولون: أليس هذا هو ابن يوسف؟ من أين له كلّ هذه الحكمة؟! إذاً أهل مدينته ما زالوا يفهمون أن يسوع – وكان قد صار عمره ثلاثين سنة – هو ابن يوسف وأمه مريم.

ونعود للسؤال الكبير:

لماذا إذاً كانت ولادة المسيح من عذراء طالما أن جيل الميلاد، وإلى عشرات السنين بعده، لم يصل إلى مسمع الناس أن المولود وُلد من عذراء لم يمسّها رجل؟!

فللتوضيح نقول: واضح أنّ المسيح بهذه الولادة المعجزية لم ينبت من تراب الأرض مثل باقي الناس، بل جاء زائراً سماوياً هبط في أحشاءٍ طاهرة هي أحشاء العذراء. فهو مولود غير مخلوق، ووجوده كان سابقاً لميلاده. المسيح كائن أزلي موجود قبل كلّ الوجود.

أما لماذا جاء وولد من عذراء فذلك لأنه جاء لإنجاز مهمّة لا يقدر على إنجازها بني البشر… فهو جاء لفداء البشرية وليكون هو الذبح العظيم لفداء كلّ إنسانٍ في هذا الوجود. والذبح العظيم أو خروف الأضحية في جميع الحالات لا يُقبل إذا شابته شائبة، ولذا فالمسيح جاء طاهراً طهارة مطلقة هبط علينا من السماء كما هبط على أبينا إبراهيم الخليل خروف الذبح العظيم الذي افتدى ابنه إسحاق – فذاك حتماً لم يأخذه الله من أغنام الناس بل هبط عليه من السماء بمعجزة، وفدى به ابنه تماماً كما هبط المسيح من العلاء ليفدي البشرية كلها، ولذلك جاء طاهراً طهارة مطلقة. فهو جاء ليفدي البشرية من سقطة آدم التي بها تلوّث جميع النسل البشري – فلم يأتِ من نسل آدم – ولو أنه انتسب إليه ظاهرياً لكونه كان يعيش كإنسان بجسدٍ من دمٍ ولحم، وكثيراً ما كان يشير إلى ذاته بأنه ابن الإنسان. تلك هي المهمّة المركزية التي جاء المسيح ليقوم بها.

ولذلك يُلاحظ أن المسيح اتّصف بالطهر المطلق، فهو طاهر قدوس خالٍ من العيوب نقي السيرة والسريرة، ولا أحد يدانيه بمثل هذه الصفة التي تميّز بها وحده مندون الأنبياء.  فنخلص بهذا إلى نتيجةٍ مفادها: إنّ المسيح بولادته من عذراء لم يرث طبيعة السقوط التي ورَّثها آدم لكلّ نسله من بعده.

وقف المسيح يوماً بين جموع اليهود من مقاوميه، وقال لهم: من منكم يُبكّتني على خطية؟! فالمهمّة التي جاء المسيح لإنجازها، تُحَتِّم أن يأتي الفادي من خارج دائرة الأرض قدوساً طاهراً خالٍ من العيب لكي يفدي، وتكون أضحيته مقبولة. لهذا نقول لأحبتنا ممّن يُنكرون الصلب على المسيح: إن الصليب لم يكن حدثاً عابراً، بل كان حدثاً رُتِّبَ له من السماء، بل وأُنبئ عنه، وأُعلن للناس قبل ميلاد المسيح بمئات السنين.  فالمسيح جاء لفدائك – قارئي الكريم – من أيّ طائفة كنت. فإن آمنت به وقبلت فداءه نلت الحياة الأبدية ونعمتَ بدخول الجنة، وهو من قال: أنا هو الطريق، بمعنى أنا هو الصراط المؤدّي إلى

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *