يقدِّم لنا روح الله درساً في الحساب، فيضع أمامنا بعض العمليات الحسابية التي تصوِّر الحياة المسيحية كما ينبغي أن تكون. وفي الكتاب المقدس عمليات حسابية كثيرة، يبدو بعضها مختلفا عن الحسابات البشرية المعتادة.
مثلاً، حين نظر المسيح إلى تلك الأرملة الفقيرة التي وضعت في خزانة الهيكل فلسين، بينما وضع غيرها من الأغنياء أكثر بكثير من ذلك، قال المسيح: إن هذه المرأة قدّمت وأعطت أكثر من غيرها. كان المسيح يقدّم عملية حسابية تختلف عن المقاييس البشرية، ذلك لأنه لم ينظر إلى ما أعطت فقط، لكنه نظر إلى ما أعطت بالنسبة إلى ما امتلكت. نظر إلى ما تبقّى لديها بعد أن أعطت وإذ لم يتبقّ لها شيء قال إنها أعطت أكثر من الجميع.
وحين يسجل البشيرون حديث المسيح مرة في قوله “أليس عصفوران يباعان بفلس؟” ومرة ثانية بالقول: “أليست خمسة عصافير تُباع بفلسين؟” يقدم لنا الوحي عملية حسابية غريبة أيضاً، لأنه في مفهومنا إن كان الفلس يشتري عصفورين، فالفلسان يشتريان أربعة عصافير، لكن المسيح قال: “أليست خمسة عصافير تُباع بفلسين؟” إذاً، في مفهومنا هناك خطأ في الحساب، لكن المسيح يقول إن هذا العصفور الزائد الذي بلا قيمة، الذي يعطيه البائع مجاناً للمشتري لا يسقط بغير إذن أبيكم الذي في السموات.
الحساب الاول: حسبناه مصاباً
أقدّم لكم عمليات حسابية أخرى تبدأ بالعملية الأولى التي في سفر إشعياء 4:53 يقول: “لكن أحزاننا حملها وأوجاعنا تحمّلها. ونحن حسبناه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً”. هذه هي العملية الحسابية الأولى التي بها تبدأ الحياة المسيحية. إننا نحسب موت المسيح موتاً كفارياً عنا، فلم يكن المسيح عند مجيئه للأرض مجرد معلم أو فيلسوف أو صانع معجزات، لكنه جاء ليقدم نفسه ذبيحة إثم عنا، وإذ ننظر نحن إليه ونحسبه مجروحاً لأجل معاصينا، ننتقل فيه من الموت إلى الحياة، وتبدأ حياتنا المسيحية. وقد يتصور الناس أن في هذا الموت الكفاري لا نستطيع أن نرى عدالة كاملة، لأنه كيف يمكن أن يموت بريء عن مذنبين لأن “النفس التي تخطئ هي تموت”؟ هذه هي العدالة لكن كيف يمكن أن يموت بار عن المذنبين؟ أين العدالة في هذا؟ إن إلهنا ليس جامداً، ليس إلهاً يتعقّبنا في خطايانا، ولا همَّ له إلا أن يمسكنا في ذات الإثم. إن إلهنا محبة، ولأنه محبة كان لا بد أن يظهر محبته لنا، نحن لا نلوم أُمّاً حين تتألم من أجل أولادها، فإن كنا نقدِّر آلام الناس لأجل الآخرين، فهل نوجِّه لوماً إلى الله حين يتألم لأجلنا؟ إن كنا نقدّر محبتنا لأجل الآخرين، فهل لا نقدّر محبة الله لأجلنا؟ لو خلا هذا العالم من إحساس الإنسان مع أخيه الإنسان وتألمه من أجله، لما كان عالماً يستحق الحياة فيه، لكن إحساسنا بآلام الآخرين يجعل للحياة معنى. “كلنا كغنم ضللنا، ملنا كل واحد إلى طريقه والرب وضع عليه إثم جميعنا”. حين ننظر هذه النظرة (نظرة الإيمان) إلى المسيح المصلوب أنه وضعت عليه خطيتي وخطيتك، حين نحسبه مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً لأجل خطايانا فإننا نُشفى من آثامنا وخطايانا.
وحين يقول إنه مضروب من الله، وأن الرب وضع عليه إثم جميعنا، فإن هذا لا يعنى أن المسيح كان مُجبراً لأن يتحمّل آثامنا ولعنة خطايانا، لم يكن مضطراً بالرغم من إرادته. لكننا نستطيع أن نفهم هذه الكلمات حين نعرف أن الله محبة. المحبة وضعت عليه إثم جميعنا، المحبة جعلته مضروباً، إن محبته هي التي جعلته يتألم من أجلنا ويُصلب عنا.
يطالبنا الرسول أن نفهم ما لا يُفهم حين يقول: “أن تدركوا مع جميع القديسين ما هو الطول والعرض والعمق والعلو وتعرفوا محبة المسيح الفائقة المعرفة”. أن تعرفوا ما لا يمكن أن يُعرف، هذه الأبعاد الأربعة للمحبة نراها في الصليب: في قوله “هكذا أحب الله العالم”، هذا هو عرض المحبة. “حتى بذل”، هذا هو طول المحبة والمدى الذي وصلت إليه المحبة. “ابنه الوحيد لكي لا يهلك كل من يؤمن به” هذا هو عمق المحبة بأن ينزل إلى أعماق الهلاك ليرفع المؤمنين به من الهلاك. “بل تكون له الحياة الأبدية” وهذا هو علو المحبة، يرتقي بنا إلى الحياة الأبدية.
هل حسبناه إذاً مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً؟ هذه هي العملية الحسابية الأولى التي تبدأ بها حياتنا المسيحية أن ننظر بالإيمان إليه وأن نحسبه مجروحاً لأجلنا، مسحوقاً لأجل آثامنا. هذا مكاني أنا لكنه أخذه عوضاً عنا.
الحساب الثاني: احسبوا أنفسكم
والعملية الحسابية الثانية نجدها في رومية 11:6. يقول: “كذلك أنتم أيضاً احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا”. في العملية الحسابية الأولى حسبنا المسيح مصاباً عنا، وفي العملية الحسابية الثانية نحسب أنفسنا وقد متنا مع المسيح وقمنا معه. يذكر بولس الرسول هذا الحديث بعد أن ذكر بأنه كما ملكت الخطية في الموت هكذا تملك النعمة بالبر، بالحياة الأبدية في المسيح يسوع. وأعلن أنه كلما زادت الخطية تفاضلت النعمة جداً وكان لا بد أن يتساءل شخص قائلاً: هل نبقى إذا في الخطية؟ إن كانت الخطية قد تسببت في أن الله يظهر نعمته والنعمة أفضل ما في الوجود، فالخطية إذا تسببت في شيء عظيم وهو نعمة الله، ينبغي أن نبقى في الخطية لكي تزداد النعمة… هكذا يقول شخص يعارض بولس في فلسفته ولاهوته. لكن يجيبه بولس قائلاً: ”حاشا! نحن الذين متنا عن الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟“ نحن لا نستطيع أن نعيش في الخطية لأننا متنا عن الخطية، إننا في آدم الأول متنا في الخطية، وفي آدم الأخير – المسيح – متنا عن الخطية. والفرق الواسع بين الاثنتين هو فرق في حرف الجر لكنه فرق بين حالتين – بين إنسان في آدم الأول ميت في الخطية، وإنسان في المسيح ميت عن الخطية. إذاً لا يستطيع أن يعيش بعد في الخطية، لقد دخل عالماً جديداً لا يفهم لغة الخطية.
أيها الأحباء لا يكفي أن المسيح يموت عن خطايانا ونكتفي نحن بهذا المقدار. إن موته عن خطايانا هو كفارة كاملة، ولا شك في أنه يعطينا تبريراً كاملاً. لكن لا ينبغي أن نقف عند هذا الحد، بل أن نموت نحن معه عن خطايانا فننتقل من مرحلة التبرير إلى مرحلة التقديس والتكريس لله. وكما قام هو نقوم نحن فيه ومعه في جدة الحياة. وهذا هو التشبيه الذي قدمه بولس الرسول بعد ذلك في أمر المعمودية. وكما أن المسيح مات ودفن في قبر ثم قام ثانية فالمعمودية هي شهادة من المؤمن إلى العالم بأنه مات في المسيح وقام معه. “احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية، ولكن أحياء لله بالمسيح يسوع ربنا”. مات عنا ليبررنا، وإذ نموت نحن فيه ومعه يقدسنا حتى نقول مع بولس الرسول: “مع المسيح صُلبت، فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا في”.
”احسبوا أنفسكم“، هذا أول حساب مع أنفسنا، والحساب في نفس هذا المقام والمعنى يقول بولس الرسول في 2كورنثوس 14:5 “إذ نحن نحسب هذا: أنه إن كان أحد قد مات لأجل الجميع. فالجميع إذاً ماتوا”، احسبوا أنفسكم أمواتاً مع المسيح عن الخطية وأحياء لله بالمسيح يسوع ربنا.
أما الحساب الثاني بالنسبة لأنفسنا فيذكره بولس الرسول في فيلبي 7:3، يقول: “لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة”. وفي نفس الأصحاح الآية 13 يقول: “أنا لست أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئاً واحداً. إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتدّ إلى ما هو قدّام”. حسابنا إذاً من جهة أنفسنا أننا أولاً نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية، وأحياء لله. ثم نحسب أننا لم ندرك، فمهما كانت اختباراتنا، ومهما كان تقدمنا في حياتنا المسيحية نحن ما زلنا على شاطئ الاختبارات، نحن لا نحسب أنفسنا أننا قد أدركنا. هناك المزيد والمزيد، هناك النمو والتعمق في معرفة المسيح ومحبته “لأعرفه وقوة قيامته وشركة آلامه”. فنحن نحسب أنفسنا أمواتاً عن الخطية، وأحياء لله وفي الوقت نفسه لا نحسب أنفسنا أننا قد أدركنا، بل نظل دائماً متطلعين إلى المسيح، طالبين أن نمتلئ بكل ملء الله.
الحساب الثالث: نحسب الآخرين
والعملية الحسابية الثالثة نجدها في فيلبي 3:2، يقول: “لا شيئاً بتحزب أو بعُجب بل بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسهم”.
لا يمكن أننا نكون مسيحيين وننسى الآخرين أو يكون همنا أن نظهر أنفسنا بتحزب أو بعجب لكي نمجد أنفسنا ونجذب الأنظار إلينا.
أيها الإخوة دعونا نراجع حياتنا وسنفاجأ ببشاعة الأنانية فيها! فبسببها ينقسم البيت على نفسه، وينقسم الإخوة على أنفسهم، بينما ينبغي أن يكون شعارنا هو هذه العملية الحسابية الثالثة “بتواضع حاسبين بعضكم البعض أفضل من أنفسكم”.
الحساب الرابع: احسبوا الظروف
أخيراً، العملية الحسابية الرابعة نجدها في عدة أماكن. في رومية 18:8 يقول:”فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلن فينا”. وفي يعقوب 2:1 يقول: “احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة”. ويقول بولس في فيلبي 7:3 “لكن ما كان لي ربحاً فهذا قد حسبته من أجل المسيح خسارة”. كل الآلام والضيقات والمتاعب، كل الصلبان التي نحملها لأجل المسيح، احسبوها جميعاً فخراً بأن الله حسبنا أهلاً أن نتألم من أجله ومعه.
أعود من حيث بدأت، هناك أربع عمليات حسابية:
اولا- احسبوا المسيح ”مصاباً مضروباً من الله ومذلولاً“ لأجل خطاياكم.
ثانيا- احسبوا أنفسكم أمواتاً عن الخطية وأحياء لله.
ثالثا- احسبوا الآخرين أفضل من أنفسكم.
رابعا- احسبوه كل فرح يا إخوتي حينما تقعون في تجارب متنوعة.
ترى هل أتممنا بنجاح هذه العمليات الحسابية كلها؟ في أي عملية حسابية تتعثر حياتنا؟ لنأتِ إلى الله مقدمين له نفوسنا لكي يجري فيها إرادته ويملأنا بروحه.