القيامة هي موعد الحياة

عندما قال المسيح عن نفسه: ”أنا هو القيامة والحياة“ كان يعلن حقيقة روحية اتخذت أيضاً مضموناً تاريخياً لعب دوراً جذرياً في حياة الكنيسة، وفي إيمان المؤمنين. فالقيامة من حيث مفهومها الروحي هي تأكيد على ألوهية المسيح وانتصاره على الموت.

قد يشير البعض إلى الأساطير الإغريقية والفينيقية، وغيرها من أساطير الأمم البائدة التي تحدثت عن موت الآلهة ثم قيامتهم. ولكن هناك فوارق هامة بين موت المسيح وقيامته وبين آلهة تلك الأساطير. وأول هذه الفوارق أنها أساطير ابتدعها الخيال البشري ليفسّر بعض الظواهر الطبيعية كالدورات الفصلية من ربيع وشتاء. كانت تلك الأساطير هي تعبير عن أشواق النفس، ولكنها لم تتعدّ حدود الخيال، وليس لها أساس تاريخي. وثانياً، إن هذه الأساطير لم تكن لها علاقة بمبدأ خلود النفس الأبدي لأن آلهة الأساطير هذه عجزت عن الخلود، وبالتالي عجزت عن أن تهب الحياة لأي من المؤمنين بها. ولم يجرؤ، بل يخطر ببال مبتدعيها، أن يدّعوا أن تلك الآلهة هي القيامة والحياة. وثالثاً، إن هذه الأساطير لا سند تاريخي لها في واقع الوجود الإنساني، أي أن أبطالها وُلدوا في أوهام البشر. بينما شخصية المسيح هي شخصية تاريخية حقيقية عاش بين الناس مدة ثلاث وثلاثين سنة، وأجرى من العجائب ما بهت له الجميع، واتخذ مواقف ثورية ضد أدعياء الدين من كتبة وفريسيين وصدوقيين، وفتّح مغاليق العلاقات بين الله والإنسان القائمة على الأبوة الروحية والمحبة التي اتخذت أسمى تعبير على الصليب.

وأود هنا أن أشير إلى بعض الحقائق التي هي عربون العمل الفدائي على الصليب والتي تكللت بتاج القيامة.

القيامة هي موعد حب مجيد كان صلب المسيح بدايته في درب المجد

حقيقةً عجز تلاميذ المسيح عن استيعابها في بادئ الأمر. فمع أن المسيح قد أشار إلى آلامه وموته وصلبه في أكثر من موضع، بل إنه أعلن لهم بصريح العبارة أنه قد جاء إلى هذا العالم لكي يفتدي الإنسان المؤمن به. فإنهم، بعقولهم المتبلّدة، لم يعوا مضمون هذا الحدث الفائق في تاريخ البشرية. ولم يدركوا أن الحافز الأعظم لعملية الصلب هو فعل المحبة الباذلة من أجل خلاص الإنسانية وعتقها من عبودية الخطيئة.

صحيح أنهم فهموا هذه الحقيقة بعد حدث القيامة. وبالتالي نادوا بها وجعلوها محور مؤلفاتهم، ومواعظهم، وكرازتهم بالإنجيل. فالقيامة قد كشفت عن أعينهم العشواء حقيقة هذه المحبة، لهذا يقول البشير يوحنا: ”لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل… نعم، كانت القيامة موعد حب مع التلاميذ، ومع الكنيسة، ومع جميع المؤمنين بالمسيح إلى هذا اليوم.

والقيامة هي موعد حياة

كان المسيح في جميع مواقفه يتحدّث عن الحياة. بل إنه رفض مبدأ الفناء. فالمسيح بالنسبة للمؤمنين به هو الحياة، وبالتالي أصبح مصدر حياة كل من آمن به. والحياة التي نتحدث عنها الآن هي الحياة الأبدية، ”فمن آمن بي… فله حياة أبدية“. هذا وعدٌ. والحياة الأبدية هذه تتجلّى بأروع صورها في لحظة القيامة المجيدة. إنها حياة أبدية في محضر إلهي أحب الإنسان حتى الموت. ففي القيامة لقاء يتمجّد فيه الآب والابن والروح القدس. لقاء تتغنّى به ملائكة السماء، ويهتف جميع القديسين المفديين بدم المسيح قائلين: ”قدوس، قدوس، قدوس“. ولكن هناك جانب آخر من الحياة. هو موعد مأساوي رهيب. لقد أشرت أعلاه أن المسيح قد رفض مبدأ الفناء، وهذا ينطبق على غير المؤمنين. إن مصيرهم، ولا ريب، هو العذاب الأبدي، أي ستكون لهم حياة، ولكنها حياة تتسم بكل صنوف العقاب. أما الحياة المباركة التي بشر بها المسيح والتي هو مصدرها وأصلها وسببها، فهي حياة السعادة والبهجة، واللقاء بالسيد الرب، والتمتع بمحضره. وعلى كلا الحالين، فإن الفادي الذي سيدين الأحياء والأموات قد ميّز بين هذين الصنفين من الحياة لكي يملأ قلوب أتباعه الصادقين بالرجاء والغبطة.

والقيامة هي موعد رجاء

فمنذ تأسيس الكنيسة الأولى والمؤمنون الحقيقيون ينتظرون مجيء الرب الثاني، إن في أثناء حياتهم، أو بعد مماتهم، على رجاء القيامة. ولو لم تكن هناك قيامة المسيح من بين الأموات، لما كان هناك رجاء لهم. بل إن فلسفة الفناء هي التي ستسود آخرة الإنسان، بل إن المسيحية وعمل الصليب والفداء تغدو لا معنى لها من وجهة روحية أو تاريخية. غير أن قيامة المسيح قد بدّلت هذه الصورة وجعلت ”الرجاء“ شعلة حيّة تتوهّج على ممر الأجيال. إن المؤمنين جميعاً يتطلعون بشوق نافذ، وقلوب ملتهبة إلى المدينة السماوية التي جاءت أوصافها الرمزية في سفر الرؤيا. إن هذا الرجاء لا يقوم على أساس المكافآت الجسدية، والمباهج والمتع غير الروحية، بل إنه رجاء يتميز بالحضور الإلهي، والقداسة، والرؤيا المجيدة. وكأنما المسيح، في سفر الرؤيا، يقول للكنيسة التي ما برحت تحيا على الأرض: ”أنا أعلم أنكم لن تدركوا ما ينتظركم… ما زلتم في رداء الجسد، لذلك ها أنا أكشف لكم في هذه الرؤيا عما قد أعددته لكم من مكافآت. إن موعد تحقيق رجائكم بات قريباً جداً حقاً، إن القيامة هي موعد رجاء.

إن القيامة حدث تاريخي ورد ذكره في المؤلفات الرومانية المعاصرة واليونانية واليهودية فضلاً عن المؤلفات المسيحية

وبالطبع، إن أعظم وثيقة يمكن الاعتماد عليها هي نصوص الكتاب المقدس. فالقيامة كحدث تاريخي هي دليل يتعذّر نقضه لأنه برهان ساطع على أن المصلوب لم يكن شخصاً عادياً، وأنه  قد جاء إلى العالم بصورة معجزية، وعاش حياة استهدفت في جميع مناحيها رفع المستوى الروحي والاجتماعي لكل من يؤمن به. وقد شهد المئات ممن ظهر لهم بعد قيامته تلك المعجزة الإلهية، ورأوه حياً في وسطهم، خاطبهم وشجعهم، وعزّاهم، ورسم لهم خطوط مسيرتهم بعد صعوده إلى السماء، وردد عليهم وصاياه، ثم عاينوه وهو يرتفع إلى الأعالي ليجلس عن يمين العظمة في السماويات. ونتيجة لذلك تحمّل رسل المسيح وأتباعه كل اضطهاد وعذاب، ودفعوا حياتهم ثمناً لإيمانهم به. فلو لم تكن القيامة حدثاً تاريخياً لما ضحوا بأنفسهم في سبيل أكذوبة أو أسطورة أو وهم. وإن هذا الحدث الذي حيّر عقول اليهود ورؤساءهم، وظل مدار بحث ونقاش عبر العصور قد جعل للإيمان المسيحي أساساً راسخاً يعتمد عليه في انتشارها ونموّها. فقول المسيح: ”أنا هو القيامة والحياة“ لم يقتصر، إذن، على البعد الروحي فقط، بل إنه امتدّ في جذور التاريخ كنصب مرتفع يراه الجميع منارة مضيئة تبدد دياجير الظلمة، وتطرد أشباح الخوف والرعب.

وإلى اللقاء على موعد القيامة.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *