يتوقع الكثيرون أن يحقق المسيح وعوده لهم بينما هم يقصدون آخرين ويبحثون عن مصادر أخرى للراحة والتعزية والسلام. ونحن نجد في جميع وعود الرب معاني صريحة. فهو يدعونا للمجيء إليه وحده بكل قلوبنا لكي ننال بركاته الجزيلة، ولكي نستطيع بحقٍ أن نطالبه بتحقيق وعوده الكريمة، كقوله: ”تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم“ (متى 28:11) الذي يكشف لنا بشكل جلي:
ضرورة المجيء إليه وليس سواه، والاعتماد عليه وحده في إزاحة متاعب وأثقال الحياة.
قدرته الفائقة في تقديم الراحة والعزاء لجميع الذين يطلبونه.
تعالوا إليَّ
لم يستطع أحد ولن يستطيع كائن ما درجت قدماه على وجه هذه البسيطة أن يقول مثل هذه العبارة. فجميع البشر في التعب والهم سواء، لا يتميز منهم تقي، أو قديس، أو نبي، ولا زعيم أو قائد مظفّر، ولا عظيم أو غني. فإذا ما درسنا سيرة حياة الكثيرين من هؤلاء توصلنا إلى نتيجة وحيدة لا ثاني لها، وهي أن الجميع يرسفون تحت أغلال الضعف الجسدي والنفسي، وجميعهم مرّوا في حالات من التعب والشقاء والألم مرغمين. والأنبياء والقديسون كانوا وما زالوا من أكثر الناس تعباً وضيقاً، وقد قاسوا تجارب مريرة لم يختبرها حتى الأشرار في هذا العالم.
كان إرميا النبي من أعظم أنبياء العهد القديم، وكانت حياته مكرسة لله منذ صغر سنه. وقد أيده الله بقوة الروح القدس لمجابهة شرور زمانه وأهل ذلك الزمان. ولكننا نسمعه في تجربة الضيق والألم يسب اليوم الذي وُلد فيه (إرميا 14:20-18).
ولا نستثني الذين ملكوا البلدان وسادوا الشعوب.. فذاك داود الملك الذي تمتَّع بسلطة واسعة على جميع الشعب القديم، وأفلح في حروبه التي قادها، وقد أعطاه الله جاهاً وغنى، ولكن اسمعه يقول: ”فإني فقير ومسكين أنا، وقلبي مجروح في داخلي. كظل عند ميله ذهبت. انتفضت كجرادة. ركبتاي ارتعشتا من الصوم، ولحمي هُزل عن سمن. وأنا صرت عاراً عندهم“ (مز 22:109-25).
وكذلك أصحاب المواهب الفنية والعلمية والرياضية: لقد قال أحد مشاهير الممثلين الهزليين مرةً: ”نحن نتكلم فنُضحِك الناس، ولكن قلوبنا في الداخل تبكي“. فلا أحد من هؤلاء يستطيع أن يدعو الآخرين إلى شخصه ليجدوا راحة عنده!
يا جميع
إن من يملك حقاً مثل هذه القدرة لهو حقاً أعظم من أن يستطيع تصوّره أي فكر بشري. فنحن نعجز أحياناً عن مساعدة قريب أو حبيب، وكثيراً ما نجد أنفسنا بحاجة إلى المعونة والرثاء أكثر من الذين يطلبون مساعدتنا. أما تلك الدعوة إلى جميع المتعبين ليأتوا إلى مصدر عظيم للمعونة والراحة، فهي قضية لم يختبرها أحد قط سوى ذاك الذي نطق بهذا الوعد لأنه يملك القدرة على استيعاب الجميع بكل ظروفهم واحتياجاتهم وضيقاتهم ومطالبهم.
المتعبين والثقيلي الأحمال
يصعب جداً تصنيف هؤلاء وتحديد أنواع متاعبهم فهي كثيرة ومتعددة. وقد نشأت بعد أن أصدر الله الحكم على عصيان آدم وحواء قائلاً: ”ملعونة الأرض بسببك… بالتعب تأكل منها كل أيام حياتك“. ولكن سنحاول تصنيف هذه المتاعب في حزمٍ عريضة.
اولا: متاعب بسبب ذكريات الماضي
فالذكريات لها آلامها وشجونها. نفوس كثيرة تحنيها ذكريات الماضي، وكثيرون أصيبوا بأمراض نفسية لأنهم لم يستطيعوا التخلص من ضغط الذكريات المتعبة. وكم من الناس يستمرون في اجترار أحداث الماضي ومآسيه، وحتى الذين ينسون أمور الماضي أو بالأحرى يتناسونها، فإنهم يعرفون أنها تحفر عميقاً في دواخل النفس أخاديد يصعب طمسها. وتظهر بكل قسوتها وشدّتها في حالات الضعف والاضطراب، ويسوع وحده يقدر أن يمحو تلك الذكريات ويملأ القلب بسلامه العجيب.
ثانيا: متاعب بسبب هموم الحاضر
إن أكثر ما يقضّ مضاجع الناس لهو هموم الحياة الحاضرة بأثقالها، ومطالبها، ومشاعر الجوع والعطش، إلى الكثير من شهوات هذا العالم ومفاتنه. وفي رؤوس معظم الناس تدور أسئلة كثيرة: كيف سنتدبر الأمور ونحصل على المطالب الكثيرة لحياتنا؟ وهذه قد قال عنها له المجد: ”إن هذه جميعها تطلبها أمم العالم. لكن اطلبوا أولاً ملكوت الله وبره وهذه كلها تُزاد لكم“.
ثالثا: متاعب بسبب حياة الجسد
فللجسد ضعفاته وآلامه وأسقامه الكثيرة بالإضافة إلى شهواته وأموره الخاصة، ”العين لا تشبع من النظر، والأذن لا تمتلئ من السمع“ (الجامعة 8:1). وقد قال موسى النبي: ”أيام سنينا هي سبعون سنة، وإن كانت مع القوة فثمانون سنة، وأفخرها تعب وبلية، لأنها تُقرض سريعاً فنطير“ (مزمور 10:90). إلا أن الرب يسوع رفع الذين يؤمنون به فوق أمور الجسد واهتماماته ومتاعبه، فأصبحت تلك ثانوية بالنسبة لحياة الشركة مع شخصه المبارك. كما قال الرسول بولس: ”لأن لي الحياة هي المسيح والموت هو ربح“ (فيلبي 21:11).
رابعا: متاعب بسبب توقعات المستقبل
ما أكثر الذين يهملون أمور يومهم وحاضرهم إذ ينصرفون بكليتهم للانشغال والتفكير بما سيحمله لهم المستقبل ويكشفه الغيب. أما الذين هم للمسيح فإنهم يضعون أمور مستقبلهم في يده القادرة، كما يقول الرسول بطرس: ”ملقين كل همكم عليه لأنه هو يعتني بكم“
(1بطرس 7:5). والرسول بولس يقول: ”فإني متيقن أنه لا موت ولا حياة، ولا ملائكة ولا رؤساء، ولا قوات، ولا أمور حاضرة ولا مستقبلة، ولا علو ولا عمق، ولا خليقة أخرى، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التي في المسيح يسوع ربنا“ (رومية 38:8-39).
خامسا: متاعب بسبب حمل الخطايا والآثام وخوف عقابها
لا يوجد إنسان حتى وإن كان ملحداً لا يحسب حساب خطاياه، وما ستجر عليه من سوء العاقبة ومغبة الدينونة، ولا سيما تلك النفوس التي تقع تحت تبكيت الروح القدس، فتتنبَّه إلى تحذيرات الكلمة الإلهية وإنذاراتها، ”لأن أجرة الخطية هي موت“.
وأنا أريحكم
ما أعظم هذه الدعوة للراحة! فقد رقّ قلب الله الحنون وتاقت أحشاؤه إلى ابنه الذي سافر إلى الكورة البعيدة، وإلى خروفه الذي أضلته الشهوة، فأرسل ابنه السماوي الحبيب لكي يعيد العلاقة المقطوعة – بسبب الخطية – إلى سابق عهدها.
إن هذه الدعوة الرائعة موجهة إلى أصحاب تلك المتاعب، لكي يُقبـِلوا إلى شخص المسيح فيجدوا عنده الراحة العظمى. وعلاج المسيح علاج عجيب في نوعيته، غريب في شكله. فهو يريد من المُتعب القادم إليه أن يحمل نيره هو: ”احملوا نيري عليكم… لأن نيري هيّن وحملي خفيف“. ألا يكفي الإنسان ما حمله من متاعب حتى يحمل فوقها نيراً آخر؟!! إنه نير لا بد من حمله لمن أراد أن يستريح حقاً من أثقاله ومتاعبه، فيطرح عند قدمَي المصلوب جميع الأتعاب – إن كانت من الماضي أو الحاضر أو المستقبل – ويرمي حمل خطاياه التي أثقلت كاهله، وملأته بالخوف من العقاب الأبدي، ويحمل بدلاً من هذه جميعها نير المسيح. فإن المسيح نفسه وضع عنقه تحت الجهة الأثقل من ذلك النير، وكتفه تحت الجزء الأعظم من ذلك الحمل، إذ وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب. كي يَصلب معه خطايانا وآثامنا المعترف بها أمامه، ويحمل متاعبنا وهمومنا من أي نوع كانت.
قارئي الكريم، إن كنت تشعر بأية متاعب تثقل كاهلك، وأية هموم تقلق نفسك، أو أية خطية غير معترف بها تعذّب ضميرك، فأنت ما زلت تحمل أثقالك بنفسك. ولا يوجد لك رجاء! وذلك لأنك لم تؤمن بذاك الذي قال: ”تعالوا إليَّ“، ولم تصدق وعده الكريم ”وأنا أريحكم“. إنه ما زال فاتحاً ذراعيه، وهو يدعوك لكي تختبر فعلاً صدق كلامه. وما عليك إلا أن تلقي أحمالك بنفسك، بل أن تأتي إليه كما أنت: بأتعابك، وخطاياك، فيزيح المسيح بيده المباركة جميع أتعابك وأثقالك، ويعطيك نيره بدلاً منها. لأن الإيمان الحقيقي ليس بلا كلفة، ولكنها كلفة مريحة للذين يريدون السير حقاً في طريق الرب، فيجدون فيه الراحة، والمسرة، والسلام. فحين يضع الرب يده القوية بيدك الضعيفة تستطيع قطع المسافة مهما بعدت، واحتمال الحياة الأرضية مهما قست، وبلوغ أبواب الأبدية، وسعادة السماء.