“وَلكِنْ لَمَّا جَاءَ مِلْءُ الزَّمَانِ، أَرْسَلَ اللهُ ابْنَهُ مَوْلُودًا مِنِ امْرَأَةٍ، مَوْلُودًا تَحْتَ النّاموس، لِيَفْتَدِيَ الَّذِينَ تَحْتَ النّاموس، لِنَنَالَ التَّبَنِّيَ”.(غلاطية 4:4-5)
من تقاليد النّاس الجميلة في عيد ميلاد ربّنا ومخلصنا يسوع المسيح، أن يقوموا بتبادل الرسائل التي تعبّر عن المحبّة والعلاقات الطيبة. وهذه الرسائل تبقى ثانوية جدًا ومؤقتة عند مقارنتها بالرسالة الخالدة التي جسَّدها الله في ميلاد الرّب يسوع، له المجد. وفي العودة إلى الإنجيل المقدس، الذي يروي لنا تفاصيل قصة الميلاد، نجد أن الآيات التي أوحى بها الله في رسالة غلاطية تحتوي على أعظم وأقدس الحقائق التي تتعلّق بهذا الحدث المجيد. ويمكننا رؤية هذه الحقائق من خلال تحليل هذا النص الإنجيلي المقدس:
لَما جاء مِلء الزمان: قام الله في اللحظة التّاريخية جدًا، والتي عيّنها هو بنفسه، أي بحسب حكمته ولمجد اسمه، بالدخول في تاريخ البشريّة وذلك عندما تجسّد الرّب يسوع، أي الكلمة الأزلي، وجاء كإنسان كامل إلى عالمنا. وبعمله هذا غيّر الله مجرى التّاريخ مرة وإلى الأبد. دعونا نتذكّر أن الله هو ربّ وسيِّد التّاريخ، وعندما يعمل أي شيء، فإنه يختار الوقت الأمثل، فهو عالمٌ بكل شيء، وكلّ أعماله تتمّ بحسب حكمته الفائقة الإدراك.
أرسل الله ابنه: تعلن لنا هذه الكلمات حقيقة الطفل المولود، فالرّب يسوع المسيح هو ابن الله، أي أنه الله المتجسِّد في صورة إنسانٍ كامل. فإعلان الوحي المقدس بأن المسيح هو ابن الله يعني أن الرّب يسوع المسيح مساوٍ للآب في الجوهر. فالمسيح هو الله الأزلي القدير، الذي أخلى نفسه، وجاء إلى عالمنا بدافع من محبته الأبديّة للجنس البشري.
مولودًا مِن امرأة: بعد أن أعلن الوحي المقدس عن لاهوت المسيح، أي أنه الله الأزلي، انتقل بنا إلى الإعلان عن حقيقة مجيئه إلى العالم بصورة إنسان، وولادته من امرأة. وتشير كلمة امرأة هنا إلى عظمة التقدير والاحترام والإجلال الذي خصّ به الله القديسة المباركة مريم العذراء. فالله أصبح إنسانًا ووُلد بواسطة أقدس امرأة ظهرت في التّاريخ. وقد تم حبل العذراء وولادة المسيح بمعجزة من الله القادر على كلّ شيء. وفي الحبل العذراوي يعلن لنا الله حقيقةً أن المسيح وُلد بلا خطية، فهو جاء بدون زرع بشر، بل بقوة الروح القدس، أي الأقنوم الثالث في الله الواحد، الذي حلّ على القديسة مريم.
مولودًا تحت النّاموس: لدينا هنا إعلان سماوي آخر يتعلّق بانتساب المسيح جسديًّا إلى شعب الله القديم، هذا الشعب الذي كان من المفروض أن يعيش بحسب ناموس الله الذي أعطاه لموسى. كذلك فإن ميلاد المسيح تحت النّاموس يشير إلى أن المسيح قد جاء ليكمّل النّاموس، وبأن ميلاده كان بحسب مواعيد الله التي احتوى عليها النّاموس.
لِيفتدي الذين تحت الناموس: يعلن لنا الله هنا عن سبب تجسّد الرّب يسوع – له المجد – ونزوله إلى الأرض، وذلك لكي يبيِّن محبّة الله لعالمنا الشرير الذي سقط في الخطيّة وأصبح تحت لعنة النّاموس. يعلّمنا الإنجيل المقدَّس أن الإنسان الذي يعمل الخطيّة هو عبد للخطية، وعقاب الخطيّة هو الموت الجسدي ثم العذاب الأبدي في بحيرة النار والكبريت. ولكن محبّة الله للناس دفعته إلى المجيء إلى العالم في شخص الرّب يسوع المسيح، وذلك ليحرّر العالم من الخطيّة وعقابها، وهكذا حمل بنفسه خطايا العالم ومات على الصّليب سافكًا دمه الطاهر ثمنًا لشرور العالم. نقرأ في رومية 8:5 “وَلكِنَّ اللهَ بَيَّنَ مَحَبَّتَهُ لَنَا، لأَنَّهُ وَنَحْنُ بَعْدُ خُطَاةٌ مَاتَ الْمَسِيحُ لأَجْلِنَا.”
لِننال التبنّي: كل إنسان يؤمن بأنَّ الرّب يسوع المسيح هو الله القدير، وبأنه قد وُلد بصورة إنسان كامل، وبأنه مات على الصّليب من أجل التكفير عن خطايا العالم، ثم يأتي إلى الله بروح التوبة والإنكسار، فإنه بهذا الإيمان ينال غفران الخطايا، ودم يسوع المسيح يُطهِّره من كل خطية، وينال بالتالي حقَّ التبنّي، أي يصبح ابنًا لله.
إن رسالة الميلاد هي رسالة المحبّة والغفران والخلاص والحياة الأبديّة. وفي ذكرى الميلاد علينا أن نرجع بقلوب صادقة إلى الله، وأن نعترف له بخطايانا طالبين منه الرحمة والغفران. ومما يحزن قلب الله وقلوب المؤمنين به، هو أن نرى كيف أصبحت ذكرى الميلاد مناسبة لممارسة النجاسة والشرّ والرذيلة، بدلًا من التوبة والعودة القلبيّة الصادقة إلى الله بروح الندم والطاعة وقبول المسيح ربًا ومخلِّصًا وحيدًا للجنس البشري.