يحتاج معظم الناس الى مادة محسوسة وملموسة لكي يؤمنوا بوجود الله، فيقولون إننا إن لم نرَ الله فكيف نؤمن بوجوده؟ لكن هذا الإله الذي أوجد الكون كان قد أعلن عن نفسه في خليقته، وفي كتابه المقدس الذي أوحى به لعبيده الأنبياء، ثم أعلن عن ذاته بتجسُّد المسيح لأن “اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّامِ الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ” (عبرانيين 1:1-3).
وداود النبي عندما كان يرعى غنم أبيه نظر الى السموات والنجوم والقمر فكتب في مزموره التاسع عشر: “اَلسَّمَاوَاتُ تُحَدِّثُ بِمَجْدِ اللهِ، وَالْفَلَكُ يُخْبِرُ بِعَمَلِ يَدَيْهِ… جَعَلَ لِلشَّمْسِ مَسْكَنًا فِيهَا، وَهِيَ مِثْلُ الْعَرُوسِ الْخَارِجِ مِنْ حَجَلَتِهِ… مِنْ أَقْصَى السَّمَاوَاتِ خُرُوجُهَا، وَمَدَارُهَا إِلَى أَقَاصِيهَا، وَلاَ شَيْءَ يَخْتَفِي مِنْ حَرِّهَا” (مزمور 1:19-6).
ثم كتب في مزموره الرابع عشر: “قال الجاهل في قلبه ليس إله”. لاحظ أن الجاهل لم يقلْ في عقله، لكنه قال ”في قلبه“ لأن الإنسان العاقل عندما يرى الإبداع في هذا الكون لا يسعه إلا أن يقول: ”لا بدّ أن يكون هناك منظِّم لهذا الكون“، لكنه قال ”في قلبه ليس إله“، لأن القلب يريد أن يعيش على هواه!
ولله درّ قول الشاعر:
من قال أن الكون كان وحده هل أدرك القول الذي قد قاله؟
أم أن هذا القول جاء صدفة أم صادراً من عدم؟ أم باله؟
وهل أضاع الملحدون عقلهم؟ أم ضيّع العقل إليهم دربه؟
إن الإنسان العاقل بعد أن يرى النظام الكوني لا بدّ إلا وأن يصل الى نتيجة مهمة وهي أنه لا بدّ لكل معلول من علّة، ولا بدّ لكل نظام من منظِّم، ولا بد لكل ترتيب من مرتّب، ولا بدّ لكل اختراع من مخترع.
يردّد لنا النبي أيوب كلمات في غاية الأهمية:
“اسْأَلِ الْبَهَائِمَ فَتُعَلِّمَكَ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ. أَوْ كَلِّمِ الأَرْضَ فَتُعَلِّمَكَ، وَيُحَدِّثَكَ سَمَكُ الْبَحْرِ. مَنْ لاَ يَعْلَمُ مِنْ كُلِّ هؤُلاَءِ أَنَّ يَدَ الرَّبِّ صَنَعَتْ هذَا؟ الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ. أَفَلَيْسَتِ الأُذُنُ تَمْتَحِنُ الأَقْوَالَ، كَمَا أَنَّ الْحَنَكَ يَسْتَطْعِمُ طَعَامَهُ؟ عِنْدَ الشَّيْبِ حِكْمَةٌ، وَطُولُ الأَيَّامِ فَهْمٌ“ (أيوب 7:12-10).
سأل النبي أيوب أربعة أسئلة:
السؤال الأول: “اسأل البهائم فتعلّمك”.
وهل من المعقول أن تعلِّم البهائم الإنسان؟ نعم، لأنه مكتوب: “إِنْسَانٌ فِي كَرَامَةٍ وَلاَ يَفْهَمُ يُشْبِهُ الْبَهَائِمَ الَّتِي تُبَادُ” (مزمور 20:49).
فمن الذي علّم العصفور أن يبني عشّه في الشجر؟
ومن علّم النحلة أن تصنع الخلية وتضع العسل فيها بكل دقة وإبداع؟
ومن علّم النملة أن تكسر حبة الحنطة الى قسمين حتى لا تنبت؟ لأنها اذا نبتت لا تصلح للأكل.
وهل سألت كيف أن بقرة سوداء تأكل عشباً أخضر وتعطيك حليباً أبيض؟
ومن علّم الكلب أن يكون أميناً والذئب مفترساً؟
وكيف أن دودة القز التي تزحف ببطء على أغصان الشجر تصنع لنفسها شرنقة لتخرج من هذه الشرنقة فراشة تطير في الجو الفسيح؟
والسؤال الذي حيّر العلماء: من وُجد أولاً، الدجاجة أم البيضة؟
ومن علّم الحيوانات أن تخاف الإنسان وتخشاه. إذ بعد أن خرج نوح من الفلك باركه الله مع بنيه وقال لهم: ”أَثْمِرُوا وَاكْثُرُوا وَامْلأُوا الأَرْضَ. وَلْتَكُنْ خَشْيَتُكُمْ وَرَهْبَتُكُمْ عَلَى كُلِّ حَيَوَانَاتِ الأَرْضِ وَكُلِّ طُيُورِ السَّمَاءِ، مَعَ كُلِّ مَا يَدِبُّ عَلَى الأَرْضِ، وَكُلِّ أَسْمَاكِ الْبَحْرِ. قَدْ دُفِعَتْ إِلَى أَيْدِيكُمْ” (تكوين 1:9-2).
السؤال الثاني:
“إسأل َطُيُورَ السَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ”.
فمن علّم الحمامة أن ترجع الى بيتها حتى لو كانت بعيدة عنه ألف ميل؟
ومن علّم طير ”البارتروج“ حينما ترى الأنثى الصياد يقترب من صغارها تراها تترك العش، وتسير على الأرض وكأنها مكسورة الجناح، فيركض الصياد ليلتقطها فتطير الى مكان آخر، وتعيد الكرّة، وبهذه الطريقة تجعل الصياد يبتعد عن صغارها. ولا بدّ من تساؤلات كثيرة عن الطيور لا مجال لنا أن نذكرها جميعها…
السؤال الثالث:
“أو كلم الأرض فتعلمك”.
يقول الوحي المقدس: “الرب بالحكمة أسس الأرض” (أمثال 19:3).
فمن جعل حرارة الشمس على سطحها 12 ألف درجة فهرنهايت؟! فهي في الموقع المناسب، والحرارة المناسبة، لأنها لو كانت قريبة من الأرض لاحترق كل شيء، ولو كانت بعيدة عن الأرض لتجمّد كل شيء!
ثم من جعل انحراف كروية الأرض 23 درجة؟ ولولا ذلك لم يكن من الممكن أن نحصل على الفصول الأربعة. فلولا انحراف الأرض لكانت قد تعذرت الحياة عليها.
ثم دوران الأرض حول نفسها مرة واحدة كل 24 ساعة، وحول الشمس مرة في السنة، لكي نحصل على الفصول الأربعة.
ثم لو نقص وزن الأرض على ما هو عليه الآن لنقصت جاذبية الأرض، وإن زاد وزن الأرض لزادت جاذبية الأرض وأصبحت المياه تغطّي وجه الأرض، لذلك كتب إشعياء النبي بروح النبوة قائلاً:
”مَنْ كَالَ بِكَفِّهِ الْمِيَاهَ، وَقَاسَ السَّمَاوَاتِ بِالشِّبْرِ، وَكَالَ بِالْكَيْلِ تُرَابَ الأَرْضِ، وَوَزَنَ الْجِبَالَ بِالْقَبَّانِ، وَالآكَامَ بِالْمِيزَانِ؟ مَنْ قَاسَ رُوحَ الرَّبِّ، وَمَنْ مُشِيرُهُ يُعَلِّمُهُ؟ مَنِ اسْتَشَارَهُ فَأَفْهَمَهُ وَعَلَّمَهُ فِي طَرِيقِ الْحَقِّ، وَعَلَّمَهُ مَعْرِفَةً وَعَرَّفَهُ سَبِيلَ الْفَهْمِ؟“ (إشعياء 12:40-14).
ثم كتب لنا إشعياء النبي عن كروية الأرض فقال:
”أَلاَ تَعْلَمُونَ؟ أَلاَ تَسْمَعُونَ؟ أَلَمْ تُخْبَرُوا مِنَ الْبَدَاءَةِ؟ أَلَمْ تَفْهَمُوا مِنْ أَسَاسَاتِ الأَرْضِ؟ الْجَالِسُ عَلَى كُرَةِ الأَرْضِ وَسُكَّانُهَا كَالْجُنْدُبِ. الَّذِي يَنْشُرُ السَّمَاوَاتِ كَسَرَادِقَ، وَيَبْسُطُهَا كَخَيْمَةٍ لِلسَّكَنِ… ارْفَعُوا إِلَى الْعَلاَءِ عُيُونَكُمْ وَانْظُرُوا، مَنْ خَلَقَ هذِهِ؟“ (إشعياء 21:40-22 و26).
ويتكلم النبي أيوب بروح النبوة بأن الأرض تسبح في الفضاء فيقول: “يَمُدُّ الشَّمَالَ عَلَى الْخَلاَءِ، وَيُعَلِّقُ الأَرْضَ عَلَى لاَ شَيْءٍ” (أيوب 7:26).
ثم من علّم أيوب أن القمر لا يضيء؟ فقد كتب لنا بروح النبوة: “هوذا نفس القمر لا يضيء” (أيوب 5:25).
وعن ضربة القمر الذي لم يكتشفها العلم إلا حديثاً، سبق الكتاب المقدس وتكلم عنها بقوله: “لاَ تَضْرِبُكَ الشَّمْسُ فِي النَّهَارِ، وَلاَ الْقَمَرُ فِي اللَّيْلِ” (مزمور 6:121).
ثم يكتب لنا الروح القدس في المزمور المئة والرابع:
”بَارِكِي يَا نَفْسِي الرَّبَّ. يَا رَبُّ إِلهِي، قَدْ عَظُمْتَ جِدًّا. مَجْدًا وَجَلاَلاً لَبِسْتَ. اللاَّبِسُ النُّورَ كَثَوْبٍ، الْبَاسِطُ السَّمَاوَاتِ كَشُقَّةٍ. الْمُسَقِّفُ عَلاَلِيَهُ بِالْمِيَاهِ. الْجَاعِلُ السَّحَابَ مَرْكَبَتَهُ، الْمَاشِي عَلَى أَجْنِحَةِ الرِّيحِ. الصَّانِعُ مَلاَئِكَتَهُ رِيَاحًا، وَخُدَّامَهُ نَارًا مُلْتَهِبَةً. الْمُؤَسِّسُ الأَرْضَ عَلَى قَوَاعِدِهَا فَلاَ تَتَزَعْزَعُ إِلَى الدَّهْرِ وَالأَبَدِ. كَسَوْتَهَا الْغَمْرَ كَثَوْبٍ. فَوْقَ الْجِبَالِ تَقِفُ الْمِيَاهُ. مِنِ انْتِهَارِكَ تَهْرُبُ، مِنْ صَوْتِ رَعْدِكَ تَفِرُّ. تَصْعَدُ إِلَى الْجِبَالِ. تَنْزِلُ إِلَى الْبِقَاعِ، إِلَى الْمَوْضِعِ الَّذِي أَسَّسْتَهُ لَهَا. وَضَعْتَ لَهَا تَخْمًا لاَ تَتَعَدَّاهُ. لاَ تَرْجعُ لِتُغَطِّيَ الأَرْضَ. اَلْمُفَجِّرُ عُيُونًا فِي الأَوْدِيَةِ. بَيْنَ الْجِبَالِ تَجْرِي. تَسْقِي كُلَّ حَيَوَانِ الْبَرِّ… السَّاقِي الْجِبَالَ مِنْ عَلاَلِيهِ. مِنْ ثَمَرِ أَعْمَالِكَ تَشْبَعُ الأَرْضُ. الْمُنْبِتُ عُشْبًا لِلْبَهَائِمِ، وَخُضْرَةً لِخِدْمَةِ الإِنْسَانِ… صَنَعَ الْقَمَرَ لِلْمَوَاقِيتِ. الشَّمْسُ تَعْرِفُ مَغْرِبَهَا. تَجْعَلُ ظُلْمَةً فَيَصِيرُ لَيْلٌ. فِيهِ يَدِبُّ كُلُّ حَيَوَان الْوَعْرِ… مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ“ (مزمور 1:104-30).
ثم وجود الأكسجين بنسبة %21 والنيتروجين بنسبة %78 مع ثاني أوكسيد الكربون بالنسبة المناسبة تماماً للحياة.
ثم ماذا عن الأوزون الذي مع كونه ساماً إلا أنه يغلّف الأرض بطبقة رقيقة جداً ويبعد عن الأرض من عشرين الى أربعين ميلاً لكنه مهم جداً للحياة لأنه يقي ويحفظ الإنسان من الإشعاعات الكونية فوق البنفسجية التي تسبب الأمراض الخبيثة.
ثم ماذا عن دورة المياه التي بها تتبخّر المياه بواسطة أشعة الشمس وتصبّها على الأرض لتسقي الأشجار وتغذي الأنهار التي تجري باستمرار لتغذي النبات. “كُلُّ الأَنْهَارِ تَجْرِي إِلَى الْبَحْرِ، وَالْبَحْرُ لَيْسَ بِمَلآنَ. إِلَى الْمَكَانِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ الأَنْهَارُ إِلَى هُنَاكَ تَذْهَبُ رَاجِعَةً” (جامعة 7:1).
ثم من جعل القمر على هذا البعد المناسب من الأرض؟ لأنه لو كان القمر قريباً من الأرض لطمت المياه فوق كل الأرض. ولو كان قطر القمر أكبر مما هو عليه الآن لطمت المياه فوق الموانئ والجزر.
السؤال الرابع:
“ويحدثك سمك البحر”.
يا ترى، ماذا سيعلمنا سمك البحر؟
أولاً: نتعلم أن السمك يعيش في الماء، ومتى خرج من الماء يموت. هكذا المؤمن إن لم يقرأ كلمة الله التي ترمز الى الماء، ويتغذى بها يومياً، لا بد أن يضعف ويموت. “لأنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان، بل بكل كلمة تخرج من فم الله”.
ثانياً: نتعلم من السمك أنه يسير مع بعضه سرباً سرباً… هكذا المؤمنون يجب أن يكونوا متحدين وبنفس واحدة، لأن هذه هي خطة الله للمؤمنين إذ يذكرنا بولس الرسول بهذا قائلاً: “فَإِنْ كَانَ وَعْظٌ مَا فِي الْمَسِيحِ. إِنْ كَانَتْ تَسْلِيَةٌ مَا لِلْمَحَبَّةِ. إِنْ كَانَتْ شَرِكَةٌ مَا فِي الرُّوحِ. إِنْ كَانَتْ أَحْشَاءٌ وَرَأْفَةٌ، فَتَمِّمُوا فَرَحِي حَتَّى تَفْتَكِرُوا فِكْرًا وَاحِدًا وَلَكُمْ مَحَبَّةٌ وَاحِدَةٌ بِنَفْسٍ وَاحِدَةٍ، مُفْتَكِرِينَ شَيْئًا وَاحِدًا، لاَ شَيْئًا بِتَحَزُّبٍ أَوْ بِعُجْبٍ، بَلْ بِتَوَاضُعٍ، حَاسِبِينَ بَعْضُكُمُ الْبَعْضَ أَفْضَلَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ. لاَ تَنْظُرُوا كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لِنَفْسِهِ، بَلْ كُلُّ وَاحِدٍ إِلَى مَا هُوَ لآخَرِينَ أَيْضًا“ (فيلبي 2).
ثالثاً: نتعلم أن السمكة الميتة تسير مع التيار، أما السمكة الحيّة فتسير ضد التيار.
“فَأَطْلُبُ إِلَيْكُمْ أَيُّهَا الإِخْوَةُ بِرَأْفَةِ اللهِ أَنْ تُقَدِّمُوا أَجْسَادَكُمْ ذَبِيحَةً حَيَّةً مُقَدَّسَةً مَرْضِيَّةً عِنْدَ اللهِ، عِبَادَتَكُمُ الْعَقْلِيَّةَ. وَلاَ تُشَاكِلُوا هذَا الدَّهْرَ، بَلْ تَغَيَّرُوا عَنْ شَكْلِكُمْ بِتَجْدِيدِ أَذْهَانِكُمْ، لِتَخْتَبِرُوا مَا هِيَ إِرَادَةُ اللهِ: الصَّالِحَةُ الْمَرْضِيَّةُ الْكَامِلَةُ“ (رومية 1:12).
فإن كنت في شك من وجود الموجود قبل الوجود: “اسْأَلِ الْبَهَائِمَ فَتُعَلِّمَكَ، وَطُيُورَ السَّمَاءِ فَتُخْبِرَكَ. أَوْ كَلِّمِ الأَرْضَ فَتُعَلِّمَكَ، وَيُحَدِّثَكَ سَمَكُ الْبَحْرِ. مَنْ لاَ يَعْلَمُ مِنْ كُلِّ هؤُلاَءِ أَنَّ يَدَ الرَّبِّ صَنَعَتْ هذَا؟ الَّذِي بِيَدِهِ نَفَسُ كُلِّ حَيٍّ وَرُوحُ كُلِّ الْبَشَرِ. أَفَلَيْسَتِ الأُذُنُ تَمْتَحِنُ الأَقْوَالَ، كَمَا أَنَّ الْحَنَكَ يَسْتَطْعِمُ طَعَامَهُ؟ عِنْدَ الشَّيْبِ حِكْمَةٌ، وَطُولُ الأَيَّامِ فَهْمٌ“ (أيوب 7:12-10).