خلق الله بني الإنسان على وجه هذه البسيطة لكي ينعموا بالحياة ويعيشوا في النور ولكنهم اختاروا الموت وأحبوا الظلمة! فلم يستطع أبوانا الأولان المحافظة على الخيار الحسن بل انصاعا إلى مشورة الشيطان وسقطا في تجربة العصيان، فأورثا جميع
نسلهما الخطيئة والموت الأبدي، فعاش منذئذ حياة الظلمة!
ظلمة العقل والقلب والضمير، وظلمة السلوك. وجاء يسوع إلى الأرض المحكومة بتلك اللعنة مشفقاً يحمل مشعل النور للسالكين في الظلمة، وبشارة الحياة للأموات في الذنوب والخطايا.
و”الحياة” كلمة لها معنى واسع وعظيم لا نستطيع استيعاب أبعادها ومعرفة مراميها، فهي تشمل ما في الكون من وجود لكل ما فيه نسمة وحيوية وحركة ونمو.
وتضم أيضاً نشاط النفس والروح، وتمتد إلى حياة الحي القيوم في الذات الإلهية العظمى التي يبقى سرها مستعصياً على إدراكنا وفهمنا المتواضع، ولكننا ندرك أن منها استمد الإنسان حياته أيضاً..
إن الرب يسوع المسيح كلمة الله وفكره الأزلي، قد أعلن لنا ما سمحت به المشيئة السماوية من معرفة وكشف ما كان مخفى عن أذهان كثيرين. فقد دوَّن لنا البشير يوحنا قوله الكريم: “وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل” (يوحنا 10:10). وقال عنه: “فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه” (يوحنا 4:1-5). فلقد أنار – له المجد -جوانب كثيرة من جوانب الحياة الأدبية إذ أخرجها إلى النور فبيّن لنا بواسطة الإنجيل قوة ارتباط الحياة بالنور، فلا حياة بدون نور، ولا نور إلا لذوي الحياة، وقد تحققت الحياة وتحقق النور بعمل الفداء.
يقول الرسول بولس موضحاً ذلك: “الذي خلصنا ودعانا دعوة مقدسة، لا بمقتضى أعمالنا، بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل
الأزمنة الأزلية، وإنما أُظهرت الآن بظهور مخلصنا يسوع المسيح، الذي أبطل الموت وأنار لنا الحياة والخلود بواسطة الإنجيل” (2تيموثاوس 9:1-10).
فلكي يظهر نور الحياة لا بد من إبطال ظلمة الموت. ومن هو الذي كان بمقدوره أن يقوم بهذا لو لم يأتِ المسيح ويقوم بعمل الفداء الذي أتمه على الصليب وأكمله بالقيامة من بين الأموات؟ فكان هذا العمل العجيب والغريب عن أذهاننا القاصرة تحقيقاً لأعظم هدف تهيأ في المشورات الأزلية، بتقديم الابن السماوي البار كفارة عن الجنس البشري المحبط والراسف تحت حكم الموت في ظلمة الخطية مقيّداً لسلطة إبليس.
فلماذا كانت لحياة البشر كل هذه الأهمية في نظر الله؟ ولماذا تكلف كل هذا الإجراء لأجلها؟ ولماذا أحب الله البشر كل هذه المحبة رغم روح العداوة لله التي أنتجها السقوط في الخطية؟!
لقد خلقنا الله لكي نحيا في نوره، إذ أن حياتنا مستمدّة من حياته هو، وبنفخة فيه صار لنا حياة. ولكن إبليس اقتنصنا إلى لعنة الموت وأضلنا فصرنا في الظلمة. وقد
صمم الله على رد مفقوده إليه مهما غلا الثمن فافتدانا بابنه الحبيب. وكما أن الله نور فإن حياة أولاد الله المفديين هي في النور أي في المسيح يسوع المخلص الذي قال: “أنا هو نور العالم. من يتبعني فلا يمشي في الظلمة بل يكون له نور الحياة” (يوحنا 12:8).
لم ولن يوجد من يستطيع أن يقول هذا سوى الرب يسوع المسيح. فهو واهب الحياة الجديدة لأنه وضع حياته لكي يمنحها لبني الموت، ثم قام ليؤكد لهم أن كل من أخذ الحياة بالإيمان بموت المسيح لن يسود عليه الموت فيما بعد، بل كما أُقيم المسيح بقوة من سلطان الموت، نقوم نحن معه في جدة الحياة. لأن موت المسيح صار مثالاً لنا في الموت عن العالم وشهوات الجسد، وحياته من بعد ذلك الموت صارت مثالاً لنا لحياة البر والقداسة والحق، والحياة الجديدة التي لا يهددها الموت الروحي كما يقول الرسول بولس: “لأنكم قد متم وحياتكم مستترة مع المسيح في الله. متى أُظهر المسيح حياتنا فحينئذ تُظهرون أنتم أيضاً معه في المجد” (كولوسي 3:3-4).
وشبّه الحياة الجديدة بالنور: “لأنكم كنتم قبلاً ظلمة وأما الآن فنور في الرب. اسلكوا كأولاد نور. لأن ثمر الروح هو في كل صلاح وبر وحق. مختبرين ما هو مرضي عند الرب. ولا تشتركوا في أعمال الظلمة غير المثمرة بل بالحري وبخوها. لأن الأمور الحادثة منهم سراً ذكرها أيضاً قبيح. ولكن الكل إذا توبّخ يُظهر بالنور. لأن كل ما أُظهر فهو نور. لذلك يقول: استيقظ أيها النائم وقم من الأموات فيضيء لك المسيح” (أفسس 8:5-14).
فنحن نرى أن جميع هذه التعاليم الجليلة مؤسسة على صلب المسيح، وموته، ودفنه في ظلمة القبر، وقيامته بفيض نور الحياة؛ التي صار هو بالفداء منشئها، وواهبها، ومثبتها في الذين آمنوا من كل قلوبهم بكفارة دمه الثمين.
وفي ذكرى قيامة الرب من بين الأموات، قد تكون وقفة قصيرة مع النفس، نافعة لنا جميعاً، كي نُعيد النظر في الأوقات التي قضيناها ونحن في حالة البعد عن الله، والانغماس في شهوات العالم، وأطماعه، ومحاسنه الزائلة، دون أن نفكر بالحياة الأبدية! فنحن لم نأخذ الحياة باختيارنا، بل قد وُهبت لنا من الله، وقد أفسد كلٌ منا طريقه، إذ ورث طبيعة الفساد الميالة إلى الشر والعصيان، وأصبحت نفسه أيضاً مقيدة في عوائد وأفكار وممارسات شوّهت الحس الروحي فيه، ولكن الوحي على لسان الرسول بولس يقول: “الله الذي هو غنيّ في الرحمة، من أجل محبته الكثيرة التي أحبنا بها، ونحن أموات بالخطايا أحيانا مع المسيح، بالنعمة أنتم مخلصون” (أفسس 4:2-5). فيا لها من نعمة غنية
قارئي الكريم، ألا تلاحظ معي أن هذه الإعلانات الكتابية يقينية مبنية على أساس ثابت متين، هو عمل الفداء الثمين، وليست قابلة للقول: “نأمل، أو نتوقع، أو نرجو أن يكون الأمر كذلك وأن تكون لنا حياة أبدية…”! لأن نزول ابن الله من السماء وتجسده في هذه الأرض لم يتم من أجل فكرة احتمالية، وموته على الصليب وقيامته المجيدة لم تحصل من أجل عمل إصلاحي بسيط كان يمكن تفاديه بأسلوب آخر، ولكن الله بحكمته الأزلية رتب لنا خطة الفداء التي أعلنت عنها كلمة الله بوضوح وجلاء؟