ملك في الميزان

الاخ ايمن يوسف

كل شيء في الحياة له وزن، لا الأشياء فقط، بل حتى البشر؛ لكل واحد وزنه بحسب الموازين الإلهية الدقيقة. قد يكون الإنسان ملكًا عظيمًا بالمقاييس البشرية لكنه هالكًا بائسًا في نظر الله. هذا ما نراه في المشهد الرهيب المصور في دانيآل٥.

وليمة سافرة على شرف الأوثان

أقام بيلشاصر، ملك بابل، احتفالاً عظيم لآلهته. فصنع وليمة امتلأت بالفجور التي تجاوزت كل حدود الشرور تحت تأثير الخمور. الملك السكران تجاسر، بتحدٍّ سافرٍ، وأمر أن يؤتى بآنية هيكل الله الذهبية إلى الوليمة. عندما يفقد الإنسان سيطرته على نفسه فإن كل الشرور الكامنة في قلبه تنطلق بلا ضابط. صحيح أن الله سمح بأخذ شعبه للسبي، وأن يُدمَر هيكله، وتُحضر الآنية المُقدسة إلى بابل وتوضع في بيت معبود الكلدانيين، ولكن ملوك بابل الذين امتلأوا من الغرور وتفوقوا في فعل الفجور، لا يروا يد الله المؤدِّبة لشعبه، بل اعتبروا انتصاراتهم، نصرًا لآلهتهم. لذلك استغل بيلشاصر هذه الوليمة ليعبِّر عما توَّهمه من نصر لآلهته الكاذبة، وفي هذا تعيير سافر وعداء صارخ لله.

رسالة مفزعة تأتي بلا استئذان

مثل هذا التحدي الصريح والإهانة الصارخة لمجد الله تستجلب على الفور قضاء الله. في الحال، قَبـِل الله التحدي وتدخل بلا صوت، في سكون وصمت مهيب رهيب تدخل في المشهد. فظهرت أصابع يد إنسان لتكتب رسالة القضاء على حائط القصر. بالرغم من حالة السُكر التي كان الملك فيها، عاد سريًعا إلى وعيه، وأفكاره أفزعته، وارتعب رعبًا شديدًا. إن كان رعب الملك كان هكذا أمام أصابع تكتب كلمات على حائط قصره، فماذا سيكون الرعب حين يُدان الأشرار بحسب ما هو مكتوب في الأسفار، بحسب أعمالهم في يوم الدينونة الرهيب أمام العرش العظيم الأبيض (رؤيا٢٠: ١١-١٣).

عدم الاستفادة من دروس الزمان

لجأ الملك الخائف إلى حكماء بابل، وعرض مكافآت جزيلة لمن يفسر الكلمات، ولكن بلا جدوى. لما خذله حكماؤه، زاد رعبه. فسمعت الملكة (التي على الأرجح أنها أم الملك) عن رعبه الشديد، فجاءت إلى بيت الوليمة. يبدو أنها لم تشترك في هذا الاحتفال الفاجر. كانت على دراية بالأحداث العظيمة التي جرت في أيام نبوخذ نصر، وتعرف دانيآل، فكلمت الملك عنه وعرفته أنه موجود في المملكة. وكعادة الرب، يستبعد حكماء هذا العالم ويُكرم رجله التقي حتى لو كان مسبيًا ومجهولاً من الملك. جاء دانيآل إلى الملك، وبقناعة وتعفف نبيل ترفَّع عن هداياه وعطاياه. وافق أن يفسر الكتابة بدون أية مكافآت، لكن كان يجب أولاً أن يبكت الملك ويخاطب ضميره بتذكيره بمعاملات الله مع نبوخذ نصر. فإن الله العلي قد أعطى نبوخذ نصر مملكة عالمية عظيمة، لكن الملك استخدمها لمجده الخاص، وقد أذله الله بسبب كبريائه. كل هذا كان يعرفه بيلشاصر جيدًا، ومع ذلك، فإنه لم يتواضع ولم يتُب. عندئذ كان يلزم أن يُدين دانيآل الإثم الذي اقترفه الملك. إن كان الملك نبوخذ نصر قد سبق واضطهد شعب الله، فبيلشاصر الملك قد استهان بمجد الله. إن فـُجره قتله كما أنهى أول إمبراطورية في تاريخ العالم. وبسبب هذا كُتبت الكتابة؛ لذا أدان دانيآل ذنب الملك قبل أن يفسر له رسالة القضاء.

موازين العلا هي أصدق بيان

لم تكن هناك صعوبة بالنسبة لمعنى الكلمات. وهي تعني في الترجمة الحرفية “مُحصى.. مَوزون.. مُقَسم”. والصعوبة كانت في أن هذه الكلمات مُجردة لا تعطي معنى بدون تفسير من عند الله الذي أرسلها. وماذا كانت رسالة الله التي قصد أن توصلها هذه الكلمات؟! هذا تفسير الكلام «منا» تعني أن الله قد رقَّم (أو أحصى) مملكتك وأنهاها. وتكرار الكلمة يعني أن الأمر قد تقرَّر من قِبَل الله. الكلمة الثانية في رسالة القضاء هي: «ثقيل»، وتعني “موزون”. وهي تخبر هذا الملك الفاجر بوصول مملكته إلى النهاية؛ فإن الإمبراطورية قد وُزنت بالموازين ووجدت ناقصة. إن نبوخذ نصر وأبناؤه قد فشلوا تمامًا في مسؤولية حكم العالم في مخافة الله. وقد تاب الملك نبوخذ نصر حقًا، تحت يد الله المؤدِّبة. وبالرغم من هذا، فإن بيلشاصر رغم علمه بكل معاملات الله مع نبوخذ نصر، قد أخطأ بصورة شنيعة أكثر من سابقيه. فقد تجاسر بصورة فاجرة ضد الله. وإذ وزنت أعماله في موازين الله الدقيقة، فقد وُجدت ناقصة «إِنَّمَا بَاطِلٌ بَنُو آدَمَ. كَذِبٌ بَنُو الْبَشَرِ. فِي الْمَوَازِينِ هُمْ إِلَى فَوْقُ. هُمْ مِنْ بَاطِل أَجْمَعُونَ» (مزمور٦٢: ٩). الكلمة الثالثة: «فرسين» ويعني “مُقسَم”. فقد كانت نتيجة فجور الملك، أن قضاء الله السريع قد حلّ. ويخبر دانيآل الملك بالقضاء قائلاً: «قُسمت مملكتك وأعطيت لمادي وفارس». إذًا الكلمة الأولى تمثل نهاية الفرصة المقدَّمة، والكلمة الثانية تمثل حيثية الحكم، والكلمة الثالثة تمثل إقرار القضاء.

قضاء عاجل لم يكن في الحسبان

قدَّم الملك الكثير للرسول حامل الرسالة، ولكنه بالكاد أعطى اهتماما ضئيلاً للرسالة نفسها. ولذا فقد جاءت الدينونة في هذه الليلة ذاتها. اُغتيل بيلشاصر، وأخذ داريوس المادي المملكة. وبذلك انتهت المملكة البابلية، وبدأت ثاني سلطة عالمية عظيمة بدورها، مملكة مادي وفارس. الغريب أن هذا الملك الغافل الذي لم يستطيع أن يفهم الكتابة ولا استوعب تفسير دانيآل! فبعد أن أخبره دانيآل بأن المملكة قضي عليها وقُسمت وأُعطيت لمادى وفارس، يريد تعيين دانيآل ثالثًا في المملكة! أية مملكة هذه؟! يسجل التاريخ أن الغزاة حوَّلوا مجرى نهر الفرات الذي يجرى في بابل، واستخدموا المجرى اليابس مدخلاً للجيوش إلى المدينة.

موقف الأمناء عندما يروا اسم الرب يهان

ما أشبه أيامنا بأيام بيلشاصر، إذ نجد التحدي السافر لمجد الله، والتعدي الصريح على حقوق الله، والرفض الواضح لترتيب الله، والطعن المستمر في مصداقية كلمة الله. إن كان المسيحيون فيها غير مضطَهَدين، ولكن اسم الله يُهان بصورة أو بأخرى. ليتنا نكون أمناء مثل دانيآل الذي استخدمه الله في أرض السبي فكان كسراج مضيء وسط ظلمة الوثنية الدامسة؛ فأضاء حتى في مشهد القضاء، وأكرم الله في أصعب الظروف. سلك بالطاعة والأمانة أمام الله، والإيمان والحكمة في الأزمات والضيقات، كما واجه بشجاعة وثبات كل التحديات والمقاومات، وبقناعة وتعفف كل الإغراءات.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *