منذ ألفي سنة وافَى المسيح الأرض، وما أجمل قدميه عندما وطأتَا الأرض فتحقق فيه قول الكتاب: «ما أجمل أقدام المُبشِّرين بالسلام، والمُبشِّرين بالخيرات» (رو10: 15). مع الفارق أنه لم يُبشِّر السلام فقط، بل دفع أُجرته «تأديب سلامنا عليه» (إش53: 5). ولم يُبشِّر بالخيرات فقط، بل سار في طريق العدل في وسط سُبل الحق، لكي يُورِّث مُحبِّيه رزقًا ويملأ خزائنهم.
وإذ نحتفل بميلاد المسيح، يجب أن نقدر هذا الأمر بطريقة روحية لا جسدية. فالعبادة في العهد الجديد عبادة روحية عكس العبادة في العهد القديم التي كانت فرائض جسدية، وحتى الغسلات كان هدفها طهارة الجسد (عب10:9 و13).
وفي السطور التالية نذكر في عُجالة بعض الأسباب من كلمة الله لمجيئه
اولا- «أما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياة وليكون لهم أفضل» (يو10:10). كان في قلب الله نوعية حياة لم يستطع شخص أن يعلنها إلا المسيح. فعندما جاء بالجسد كان هو العرق والفرخ الذي نبت قدام الله في أرض يابسة (إش53: 2)، جاء المسيح كحبَّة الحنطة التي وقعت في الأرض وماتت وأتت بثمر كثير فصار لنا هذا الصنف من الحياة وذلك بحياة المسيح فينا بالإيمان، هذا الصنف يختلف تمامًا عن صنف حياة آدم،أنها حياة الله نفسه “الحياة الأبدية” ، وكلمة «حياة أفضل» تُعنى حياة فُضلى حياة ممتلئة.
ثانيا- «أعطانا بصيرة لنعرف الحق» (1يو 20:5). هناك فارق بين البصر والبصيرة. فالبصر هو رؤية العين المجردة، أما البصيرة فهي الفهم والمعرفة. هناك مَنْ له البصر لكن ليس عنده بصيرة. وهناك مَنْ حُرموا من البصر لكنهم يتمتعون البصيرة. «الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأنه عنده جهالةٌ» (1كو2: 14) أي غير مُستساغة، لكن بمجيء المسيح فتح بصيرتنا على قبول هذا الحق وفهمه وقبوله الحق الخاص بالآب وبالمسيح وبالخلاص.
ثالثا- «ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني» (غل5:4). قبل مجيئه كنا تحت الناموس، ولم نتحرر منه إلا بارتباطنا بالمسيح في موته وقيامته فمتنا عن الناموس بموتنا مع المسيح وتحررنا منه.
رابعا- «ليخلص به العالم» (يو17:3). إن الله لم يرسل ابنه ليدين العالم، بل ليخلص به العالم. مع أنه لو أرسله ليدين العالم لكان عنده كل الحق بسبب اكتمال شر العالم، لكن في صلاح الله قدم أفضل مَنْ في السماء ليُخلِّص أنجس مَنْ في الأرض، ومع أنه ابنه الوحيد، لكنه لم يُمسكه عنَّا (رو8: 32) .
خامسا- «لدينونةٍ أتيتُ أنا إلى هذا العالم» (يو39:9). يبدو أن هذا الشاهد يناقض السابق، لكن كلمة الله لا تناقض نفسها. ففي مجيئه أتى ليَخْلُص به العالم، وفعل أتم وأعظم عمل لخلاص البشرية، لكن مجيئه في ذات الوقت صار بينة لدينونة الرافضين للابن ولعمله.فقد أثبت مجيئة الخطية على رافضيه وإستوجب عليهم الدينونة فالخطايا بكافة أنواعها ليست هي السبب الأول في الدينونة لأن هناك الكثيرين من فاعليها خلصوا أمثال السامرية وزكا واللص، لكن دليل الإدانة الأساسي هو رفض الإنسان الخلاص الذي صنعه المسيح.
سادسا- «لأنه في ما هو قد تألم مُجرَّبًا يقدرُ أن يُعين المُجرَّبين» (عب 18:2). من ضمن أغراض التجسد أنه يُجرَّب بكل أنواع التجارب حتى عندما يرثي للمجربين ويُعينهم يكون من واقع تجرُّبه، وليس من واقع معرفة لظروف المؤمنين فقط. فعن تجاربه ذكر الكتاب عنه: «رجل أوجاعٍ ومُختبر الحَزَن» (إش53: 3) أي خبير بالأحزان.
سابعا- «لأني أعطيتكم مثالاً» (يو 15:13). فهو نموذج ومثال لنا في كل شيء. البشر بصفة عامة أفضلهم إذ اقتربت منه لا تجد فيه سوى النقائص. من الممكن من بعيد تراه رائعًا، لكنك تصطدم بنقائصه كلما اقتربت منه. وعندما نقول ”البشر“ لا نفرق في هذه النقطة بالذات بين مؤمن أو خاطئ، خادم أو مخدوم، لكن الوحيد الذي يصلح أن يكون قُدوة هو الرب يسوع في حياته على الأرض.
ثامنا- أتى لكي «يخدم وليبذل نفسه فديةً عن كثيرين» (مر45:10). أتى لا ليُخدَم، بل ليخدِم، وفي ذات الوقت لم يخدمنا بوقته أو ببعض مما عنده، لم يعط ثروة بيته، بل أعطى نفسه. فعندما رأى أنه لكي يُخلِّص نفوسنا يجب أن يضع نفسه، فعل ذلك بكل الحب «صنع نفسه تطهيرًا لخطايانا» (عب1: 3).
تاسعا- «لكي يطلب ويخلص ما قد هلك» (لو10:19). لم نكن سنهلك بل كنا هالكين؛ أي مفقودين، لكنه تعلَّق بنفوسنا ونحن في وهدة – حفرة – الهلاك (إش38: 17). وقد كان زكا عينة لأولئك الهالكين الذين خلصوا الذي قال عنه الرب هذه العبارة وشهد عنه أيضًا بأنه ابن إبراهيم.
عاشرا- «ليشهد للحق» (يو37:18). الحق الخاص بالمسيح، والآب، والروح القدس، والخلاص، والإنسان، والخطية، جاء المسيح للشهادة للحق، بل كان هو الحق ذاته حيث قال: «أنا هو الطريق والحق والحياة» في زمن بات كل شيء حقيقي له تقليد زائف. كان المسيح أعظم شهادة للحق لأنه عاش ما يقوله «ما ابتدأ يسوع يعمله ويعلِّم به» (أع1: 1)، وقال مرة: «أنا من البدء ما أكلِّمكم به»؛ أي لا انفصال بين ما يقوله ويُعلِّم به.
احدى عشر- «لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة (ساعة الصليب)» (يو12: 27). الإنسان في موته يُقال عنه إنه لا يعلم ساعة موته، ولا كيفية موته ولا مكان موته، لكن المسيح هو الوحيد الذي كانت هذه الثلاث أمور مُعلَنة له من بداية حياته. فكم من مرة تكلَّم عن حوادث صلبه، ليس فقط كحدث، بل كتفاصيل، بل وأدق التفاصيل. وحتى قيامته تكلَّم عنها. فمن وقت مجيئه جاء لكي يموت، فالناس تولد لكي تعيش أما المسيح فلقد ولد لكي يموت نيابة عن البشر الخطاة.
ثانية عشر- بيد بالموت مَنْ له سلطان الموت «فإذ قد تشارك الأولاد في اللحم والدم اشترك هو أيضًا كذلك فيهما، لكي يُبيد بالموت ذاك الذي له سلطان الموت، أي إبليس، ويعتق أولئك الذين – خوفًا من الموت – كانوا جميعًا كل حياتهم تحت العبودية» (عب14:2 و15). «تشارك» كلمة تختلف عن «اشترك». فكلمة تشارك تفيد أن الناس تشترك في اللحم والدم والخطية الساكنه فيهم تلقائيًا وبدون إرادة بحكم التناسل البشري، لكن «اشترك هو كذلك فيهما» تعود على الرب الذي شابهنا في كل شيء اراديًا، ما عدا الخطية. والهدف لكي يكون إنسانًا فيصلح أن يفتدى الإنسان، وبلا خطية لكي يصلح أن يقدِّم نفسه عن الخطية، ولكي يحقق النصرة على العدو فتمت النبوَّة الخاصة بنسل المرأة الذي يسحق رأس الحيَّة (تك3: 15). فلقد «جرَّد الرياسات والسلاطين أشهرهم جهارًا، ظافرًا بهم فيه» (كو2: 15). فلقد عاش الإنسان في عبودية وإذلال من الشيطان مثلما عيَّر جليات شعب الله في القديم، لكن جاء الأقوي وربط القوي ( إبليس) ونهب أمتعته ورد سبينا.
ثالث عشر- لعمل مشيئة الآب (يو6: 38؛ عب7:10 و9). لو جاء الرب وعمل مشيئته كان سيصبح رائعًا، لكنه لم يفعل مشيئته بل عمل مشيئة الذي أرسله، فأظهر ذلك الإنسان الكامل والعبد الكامل الذي يفعل إرادة سيِّده، فهو الوحيد الذي استطاع أن يقول: «أنا مجدتك على الأرض. العمل الذي أعطيتني لأعمل قد أكملته» (يو17: 4) على النقيض تمامًا من آدم الذي فعل إرادته مخالفًا إرادة الله وبذلك سقط في الخطية وسقط معه كل الجنس البشري لأنهم اولاد آدم (رو5: 19).
رابع عشر- ليُعلِن الآب «الذي رآني فقد رأى الآب» ( يو14: 9). الرب يسوع هو «ابن الله» وهذا التعبير يُعني أنه المُعلِن للآب. كان الإعلان عن الآب جديدًا في العهد الجديد، فخلق كلام الرب يسوع عن الآب رغبة عند فيلبس أن يرى الآب، فقال له: «أرنا الآب وكفَانَا» (يو14: 8)، فقال له الرب: «الذي رآني فقد رأى الآب». لقد نجح في أن يُعلِن الآب في كل صفاته المتنوعة. فقداسة الآب أظهرها المسيح في طهارته، ونعمة الآب أظهرها المسيح في تعاملاته مع الأُمم، واليهود، ومع السامريين، ومع المنبوذين والمطروحين.
والسؤال الآن الذي أتمنى من قارئي العزيز أن يُجيب عليه: ”ماذا استفدت من مجيء المسيح؟“. فمجيئه قَسَم التاريخ وصنع فرقًا شاسعًا في حياة الملايين الذين أمنوا به من كل أنحاء الأرض، مجيئه كان سببًا في كل البركات الروحية التي ذكرناها فهل قبلته مُخلِّصًا وصرت فيه انسان جديد، ابن لله، وارث السماء؟ وإلا فإنك سوف تقف أمام دينونة الله العادلة لكي تُجيب على نفس السؤال وحينئذ سوف يستد الفم أمامه لأنك لن تجد جوابًا “أنت بلا عزر أيها الإنسان” (رو2: 1).
أنور داود anwerdaoud@yahoo.com