وتضمُّ صرختَها المتحشرجة إلى صرَخات أبيها لتلتقي هي الأخرى مع مثيلاتها الصادرة عن الإخوة والأخوات المضطهدين والمضطهدات في الإنسانية منذ فجر التاريخ وحتى الآن، هذه الصرخات المدوِّيَة عساها تصل إلى مسامع الكبار والمسؤولين في عالمٍ بشري متحضّر يعيش في القرن الحادي والعشرين. لكن، ويا للأسف، بات العالم الذي نعيش فيه يصمُّ آذانه عن سماع صراخ المسكين، ويغضُّ الطرْفَ عن آلام المضطهدين والمنبوذين.
لا عجبَ يا قارئي، فصوت المتألمين والمظلومين والمحرومين صارَ عبئًا لا بل قلْ ثقلاً على كاهل إنسان التقدُّم والتحضُّر على الرغم من شعاراته المرفوعة في الدفاع عن حقوق الإنسان المشروعة وحريته المفقودة في كثير من البلدان حتى في هذا العصر والزمان. فليس كلُّ ما ينادي به الإنسان من شعارات، أو ما يحمله من لافتات، يعكس حقيقة أفكاره ودوافع قلبه المخفية. بل نرى إنسان القرن الحادي والعشرين الذي يتلفَّظ بشعارات التقدّم والتطوّر والتحضُّر، يعيش في تناقض ذاتي في أحيان كثيرة. فيقولُ ولا يفعل، وينادي دون أن يطبِّق، وتبقى مناداته كلُّها حبرًا على ورق ولسان حاله: ليس لي في هذا شيء. وسرعانَ ما تتراكمُ الصرخات لنسمع صداها يتردد دونَ أن يحرِّك ساكنًا لا في المقامات الكبيرة ولا في الصغيرة. لكنَّ هذا كلّه، لن يثنيَ عزم “دينا” الصغيرة، ذات الخمسة عشر ربيعًا، عن توسلاتها المتتابعة التي وجَّهتها في رسالة مفتوحة هذه المرة ليس فقط للعالم بل للسيد رئيس بلدها وزعيم مسقط رأسها. فنسمعها توجّه له رسالةً عبر الإعلام الإلكتروني (اليوتيوب) تناشدُه فيها كي يجد حلاً لمشكلتها البسيطة والعويصة في آنٍ واحد لتقول: “هل ترضى يا حضرة الرئيس لحفيدتك أن تعيش في مثل ظروفي؟ فتُحرم من الراحة والاستقرار والأمان وتخسر حياتها ومستقبلها في مقابل تمسكها بعقيدة تؤمن بها؟!”.
نعم، أيُعقل أن تتعذّب فتاةٌ في عمر الزهور بسبب إيمانها وعقيدتها الجديدة؟ أيُعقل يا سيادة الرئيس أن تتعرّض هذه الصغيرة الفتيَّة للسوائل الحارقة التي تهرئ جسدَها، ليس لذنبٍ اقترفتْه، أو فضيحةٍ كانت هي سببَها، أو خيانة قامت فيها ضدَّ بلدها! كلا، ولا شيءَ من هذا القبيل. بل تعرَّضت “لِميّة النار”، حين ألقى أحدُهم بمادة حارقة على ملابسها، لأنها غيّرت عقيدتها وإيمانها. ومنذ ذلك الحين بدأت دينا تعاني مع والدها المؤمن بسبب تعنُّت الأجهزة الأمنية في التصريح لهما بمغادرة البلاد رغم المحاولات المستميتة للكشف عن أسباب منعه من السفر. وصرَّح والد دينا (ماهر) لإحدى الصحف منذ أشهر خلَتْ، بأنَّ محاولات قتلٍ عديدة استهدفته وابنته دينا، ممَّا جعل حياتهما عرضة لخطرٍ مستمر في مواجهة المعترضين، وخاصةً كونُه طالَب علنًا بتغيير ديانته في الأوراق الثبوتية. وخاضَ الوالد المضطهَد معارك قضائية وقانونية عديدة باءت جميعها بالفشل أمام تمسك الدولة بنهجها الرافض لمنحِ مواطنيها الحق في اعتناق عقيدة أخرى.
في رسالتها المفتوحة إلى الرئيس، عبَّرت دينا الصغيرة عن ضيقها الشديد من المعاملة التي تتلقّاها والمتاعب التي تواجهُها في كل مكان تلجأ إليه، وعن تعرُّضها للضرب والإهانة. ممَّا دفعها للتوقّف عن دراستها والانتقال مع والدها من مكان إلى آخر بحثًا عن الأمان الشخصي لكليهما أمام التهديدات العديدة التي واجهتهما منذ أعلن والدها عن اعتناقه المسيحية. لكن وعلى الرغم من كل هذا الحزن والألم فإنَّ دينا الطفلة الصغيرة عادت لتؤكد بأن كلَّ ما واجهته من اضطهادات وما ستواجهه، لن يثنيَها عن تمسُّكها بعقيدتها المسيحية “لأنَّ المسيحَ مرسومٌ في قلبي” كما صرَّحت بكل فخر واعتزاز.
أجل، المسيحُ مرسوم في قلب الطفلة، وسيبقى أبدًا. لأنَّها كأخرياتٍ سبقْنَها، وآخرين عبَّدوا لها الطريق، لن تتراجع دينا بعدَ أنِ اختبرتْ حياةَ الإيمان الجديدة مع الرب يسوع المسيح الذي أضحى ملكًا وسيدًا على قلبها وحياتها. فالإيمانُ الناتج عن الاختبار لهوَ أقوى من أيِّ عقيدةٍ أو ديانةٍ متوارَثة أبًّا عن جدّ. وهل يقدر مَنْ سطعَ النورُ في قلبه فأضاءَ حناياه وكشف له حقيقةَ نفسه الخاطئة أن يعودَ إلى بؤرةِ الظلام والفساد التي تطغي على نفسه وقلبه وفكره؟ إيمانُ الاختبار، هو التغيير الجذري الذي يحصل في الفكر والقلب والوجدان، هذا التغييرُ الذي يفوق ويسمو فوق أيِّ دين ومعتقد ووصايا نردّدها دون وعيٍ أو إدراك. هذا الاختبار لم يتكلم عنه أيُّ نبي في السابق؛ وحده المخلص والفادي الرب يسوع المسيح انفردَ في تقديمه لسامعيه فقال لنيقوديموس رئيس اليهود العريق: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنْ فَوْقُ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَرَى مَلَكُوتَ اللهِ”.
لقد أعلن الرب يسوع المسيح في مجيئه إلى عالم الإنسان حاجة البشر جميعًا، بغض النظر عن عرقهم أو لونهم أو خلفيتهم، حاجتهم جميعًا إلى شيء واحد ووحيد ألا وهو الولادة الروحية. وحين استغرب نيقوديموس كلامه فسَّر له كيف تتم هذه الولادة الروحية فقال له: “الْحَقَّ الْحَقَّ أَقُولُ لَكَ: إِنْ كَانَ أَحَدٌ لاَ يُولَدُ مِنَ الْمَاءِ وَالرُّوحِ لاَ يَقْدِرُ أَنْ يَدْخُلَ مَلَكُوتَ اللهِ”.
فالروح التي انفصلت عن باريها بسبب حاجز الخطية، بحاجة إلى ولادة من جديد لتعود وتتمتع بانسجام معه تعالى. لهذا وجَّه الرب يسوع نظرَ نيقوديموس إلى الطريقة التي تتم فيها هذه الولادة الروحية فقال: “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ. لأَنَّهُ لَمْ يُرْسِلِ اللهُ ابْنَهُ إِلَى الْعَالَمِ لِيَدِينَ الْعَالَمَ، بَلْ لِيَخْلُصَ بِهِ الْعَالَمُ. اَلَّذِي يُؤْمِنُ بِهِ لاَ يُدَانُ، وَالَّذِي لاَ يُؤْمِنُ قَدْ دِينَ، لأَنَّهُ لَمْ يُؤْمِنْ بِاسْمِ ابْنِ اللهِ الْوَحِيدِ. وَهذِهِ هِيَ الدَّيْنُونَةُ: إِنَّ النُّورَ قَدْ جَاءَ إِلَى الْعَالَمِ، وَأَحَبَّ النَّاسُ الظُّلْمَةَ أَكْثَرَ مِنَ النُّورِ، لأَنَّ أَعْمَالَهُمْ كَانَتْ شِرِّيرَةً” (يوحنا 16:3-19).
وحين يضيء نورُ المسيح قلبَ الإنسان أيًّا كان، سرعان ما يدرك بأنَّه خاطئ أثيم وبحاجة إلى مخلص ينقذه من عقاب الخطية ويعيد شركته المقطوعة مع الله الآب. والمخلص الوحيد هو الرب يسوع الموعود به منذ بداية الخليقة وقبل أن يكون هناك معتقدات وديانات ووصايا. ولا يستطيع الإنسان أن يدخل إلى ملكوت السماوات هذا إلا إذا آمن واختبر فعلاً هذا الخلاص عن طريق الفادي والمخلص يسوع المسيح.
ومنذ أنْ أنارَ المسيح الحياة والخلود للإنسان، نشهد أناسًا كثيرين من مختلف الخلفيات والمعتقدات يؤمنون وينضمُّون يوميًّا إلى كنيسة المسيح العامة والجامعة والشاملة من كلِّ الأمم والقبائل والشعوب. وفي كل يوم يزدادُ عددُ المؤمنين الذين ينضمُّون إلى حظيرة الخراف وعائلةِ بيت الله. وهكذا يحصلون على السلام والرجاء بحياة أبدية في حضرة الله الآب. وكما تعرَّض المؤمنون المسيحيون في القديم للاضطهاد والتعذيب في سبيل إيمانهم الاختباري الحقيقي بالرب يسوع، لا يزال الإنسان المؤمن اليوم يلقى نفس الرفض والتعذيب من قِبَل أخيه الإنسان المختلِف عنه في الإيمان، ومن قِبَل الحكومات التي ما زالت تتدخَّل في حرية الإنسان الشخصية سالبةً حقَّه في اختيار ما يؤمن به. فهل تلقَى صرخةُ “دينا” عبرَ رسالتها المفتوحة، وصرخةُ أبيها “ماهر” أذنًا صاغية في عالم اليوم؛ العالم الذي يتغنَّى بحرية التعبير والمناداة بحقوق الإنسان المهدورة؟!
وما أحرانا نحن المؤمنين إلاَّ أن نحيِّي إخوتنا المضطهدين من أجلِ إيمانهم في المسيح، تحيةَ المحبة والإخاء والدَّعم والتشجيع لأنهم “إناء مختار من قبل الله ليحملوا اسمه أمام ملوك وأمم كثيرين”.
فهل المسيحُ مرسومٌ في قلبك، يا قارئي، تمامًا كما هو مرسومٌ في قلب دينا الصغيرة؟ حذارِ أن يكونَ المسيح مجرد اسم تحمله، بينما حياتك بعيدة كل البعد عن فحوى هذا الاسم العجيب ومغزى مجيئه إلى عالم البشر!