الصليب والقيامة ركنان هامان من أركان العقيدة المسيحية، لا يقبلا المساومة فيما يجوز أو لا يجوز، فقد ترسّخا في ضمير المسيحية ووجدانها منذ بدايتها.
ونحن عندما نتحدث عن هذا، لا نقولها تعصّبًا أو تحدِّيًا لأحد، إنما نحاول أن نسلّط الضوء على حقيقة راسخة تمثّل ما يُشبه الحبل القرمزي لنجاة البشرية، وتلك حقيقة ما زالت خفية لدى كثيرين، ومن فاتته خسر أبديته! في الصليب شفاء وفداء.
نيقوديموس كاهن يهودي جاء خفية إلى المسيح ليلاً يستوضح عن أمور يجهلها… لم يجبْه المسيح عمّا سأل، لكن نقله مباشرة إلى مشهد الصليب المتمثّل بالحية النحاسية التي رفعها موسى في البرية لنجاة شعبه من لسعات الأفاعي (سفر العدد 21). فلكي يسهّل على نيقوديموس فهم ما يقصده، اختار له يسوع مشهدًا من أسفار توراته يشير للصليب فقال: يا نيقوديموس، “كما رفع موسى الحية في البرية، هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان (على الصليب)، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية.” (يوحنا 14:3-15)
لم تأتِ عقيدة الصلب من فراغ، ولا جاءت من خيال الناس لتنهي قصة حياة إنسان اسمه المسيح، وكإنسان لا بدّ أن يموت مثل غيره، فقالوا مات مصلوبًا وانطوت صفحته.
ولنفترض جدلاً أن الصلب لم يحدث… عندها يبرز السؤال: كيف مات المسيح؟ وكيف كانت نهاية حياته على الأرض؟ فإن لم يُصلب ويموت نقف أمام فراغ مبهم في حياة أعظم عظماء التاريخ دون تفسير! المسيحية أجابت عن هذا وقالت: المسيح صُلب ومات، وفي اليوم الثالث قام تاركًا خلفه قبرًا مفتوحًا لا جثة فيه ولا عظام! فقبره المفتوح يرفع الصوت عاليًا ليقول لكل الشعوب: المسيح الذي احتضنته في جوفي وخلتُ أني قويت عليه، لكنه غلبني وكسر شوكتي، ففي فجر الأحد أفلت مني وقام وغادر المكان!
لا حيرة ولا إبهام في قصة الصلب في المسيحية… فالوحي حدّثنا عن تفاصيل ميلاده لحظة بلحظة، وعن معجزاته المبهرة للعقول، وعن أدقّ ما قام به من أعمال وأقوال، أيُعقل أن يصمت عن تفاصيل نهاية حياة المسيح على الأرض، ويترك الأمر مبهمًا تتضارب حوله التأويلات والاجتهادات؟
أيجوز أن نعرف عن نهاية حياة أفلاطون، وإمرؤ القيس، وجبران خليل جبران، وموسوليني، ولا نعرف عن تفاصيل نهاية حياة عظيم لم يعرف التاريخ مثله من نظير؟!
الرواية الوحيدة التي بقيت في الميدان على مر الأزمان بلا منافس، مؤيدة بالوثائق والنبوات، فهي رواية الصليب كما دوّنها الوحي في إنجيل الحق، وفوق هذا وذاك، للرواية شهود كثيرون، ومنهم قديسون ممن شاهدوا الحدث بأم العين، ولا ينطقون عن هوى، وحاشا لله أن يضلّهم في ما رأوه!
وأمه كانت هناك، ومعها مريم المجدلية وغيرها من نسوة مؤمنات يقفن معها يخفّفن من أحزانها وهي ترى ابنها البار معلّقًا على الصليب ينزف دمًا، والأم تعرف ابنها جيّدًا، ومن معها يعرفنه بوضوح.
ويوسف الرامي واحد من أتباعه، وكان غنيًّا فطلب من بيلاطس أن يأذن له بدفنه وسُمح له، وحضر معه نيقوديموس الذي سبق وآمن سرًّا بالمسيح حين التقى به ليلًا (يوحنا 3)
والاثنان تعاونا على تكفين الجسد حسب عادة اليهود، وبقي الجسد بين أيديهما لساعات ويعرفانه جيّدًا، ثم دفناه في قبر يخصّ يوسف الرامي تبرّع به تكريمًا لسيده.
وماذا نقول في أمر توما أحد تلاميذ المسيح الملازمين له؟! فتوما عندما تحقّق بأم العين أن المسيح صُلب ومات، استولى عليه اليأس، وغاب عن ساحة رفاقه لأسبوع كامل.
وبعد ما قام المسيح أسرعوا إليه قائلين: المسيح قام يا توما، وظهر لنا وكلَّمنا! لكن توما ومن شدة قناعته بصلب المسيح وموته لم يصدّق خبر القيامة، فأصرّوا عليه فقال: إن لم أبصر أثر المسامير في يديه وأضع يدي في جنبه المطعون لا أومن! وفي الأحد الثاني ليوم القيامة حضر توما معهم. وبينما هم كذلك دخل المسيح عليهم فجأة رغم أن الأبواب كانت مقفّلة بإحكام خوفًا من اليهود، ولم يفتح أحد الباب له، فقال: “سلام لكم!” (يوحنا 26:20)
ثم نظر إلى توما وقال: تعال يا توما وهات إصبعك والمس وتحقّق من أثر المسامير، وهات يدك وضعها في جنبي!
ولما كانت المعجزة أقوى من شكوكه قام توما وسجد بين يدي المسيح وقال له: “ربي وإلهي!” (يوحنا 28:20) فردّ عليه: “لأنك رأيتني يا توما آمنت! طوبى للذين آمنوا ولم يَرَوْا.”
فلو بقي توما على حالة الفشل في عزلته عن رفاقه، لخسر طيب هذا اللقاء الذي استردّ به عافيته روحيًّا ونفسيًّا. ونلاحظ أن الرب يسوع بحنانه الرباني لم يرفض توما بل عاتبه بعتاب لطيف وعالج ما أصابه من شكوك وقرّبه إليه. هذا هو الإله الذي نعبده ونعتزّ بالانتماء إليه، إلهٌ حنّان يترأَّف علينا في ضعفاتنا. فكانت النتيجة أن انحنى توما أمام سيده وقال له بكل شفافية: “ربي وإلهي!” بمعنى: أنت ربي وإلهي!
جدير بالذكر أن توما بعد هذا اللقاء نشط إيمانه وتقوّى وانطلق لخدمة سيده بعزم وثبات ليشهد للمسيح وينشر رسالة الخلاص بين الشعوب. وسجّل التاريخ الكنسي أن توما حمل رسالة المسيح إلى الهند، فأجيال المسيحيين الهنود اليوم، ملايين لا تُحصى، هم من ثمار خدمة قدّمها توما في بلادهم، واستمرّ فيها إلى أن استشهد.