عزيزي الإنسان الضال في متاهات الحياة، هذه ليست الرسالة الأولى التي أبعث بها إليك، فقد سبق لي أن أرسلت إليك رسائل أخرى عديدة منذ أن خلقتك على هذه الأرض منذ آلاف السنين حاولت فيها أن أكشف لك عن محبتي وعطفي عليك. فأنا، كما أعلنت لك في رسالتي الأولى، خلقتك على صورتي ومثالي لتكون لي معك علاقة تاريخية لم يحظَ بها أحد من مخلوقاتي التي أبدعتها حتى الملائكة الذين سبقوك في الوجود.
وعندما جبلتك من تراب ونفخت فيك نسمة الحياة الأولى، ثم صنعت لك من ضلعك حواء الجميلة لتكون لك معينًا، سلَّطتكما على الأرض وأخضعتها لكما وهيأت لكما جنة عدن لتكون لكما مقرًّا تأنسان إليه وتتمتعان بجميع خيراته. لم أبخل عليكما ببركاتي وأمرتكما أن تثمرا وتكثرا وتملآ الأرض. إن هذه الامتيازات التي أنعمت بها عليكما وعلى نسلكما من بعدكما تعبيرًا عن هذا الحب الذي أكننته لكما ظل يختلج في نفسي على ممرّ السنين فلم تخمد له جذوة ولم ينطفئ له نور. إنني دائمًا وفيٌّ لعهودي لا أنكثها حتى مع الذين أخطأوا إليّ وتمرّدوا عليّ. وفي كل مرة عزمت فيها أن أُبيد الإنسان العاصي عن وجه الأرض كنت أتذكر أن صورتي التي شوهّها بإثمه ما برحت حيَّة فيه، هذه الصورة التي هي ملكي التي لم أشرك فيها أحدًا إلا الإنسان.
ماذا أقول لك بعد؟ عندما أكلت أنت وزوجتك من الشجرة المحرمة وأردتما أن تكونا “كالله عارفَين الخير والشر” فإنكما بتمردكما على نواهيَّ قد حكمتما على أنفسكما بالموت الجسدي والانفصال الروحي عني، بل بصفتكما ممثلان عن الجنس البشري حملتما على كاهليكما ما أصاب ذريتكما من دينونة وعقاب لأن عصيانكما أدخل الخطيئة إلى العالم بأسره. لقد اعترى الطبيعة البشرية خلل روحي ما فتئ حتى هذه اللحظة ينهش في الكيان الإنساني وأصبح مخلوقي الذي أكرمته مستعبدًا يرسف في أغلال سيده الجديد.
ولكن على الرغم من عصيانكما وعدتكما بالخلاص.
كان قلبي يفيض بالأسى عليكما لأن عدالتي كانت تطالب بمحاكمتكما، وهي عدالة قائمة على بري المقدس. ومهما حاول الإنسان أن يتملص من العقاب ويجهد في تفادي العدالة وما تسفر عنه من قضاء رهيب فإن جميع محاولاته تبوء بالفشل. وهنا تراءت لي محبتي المتأججة بالرحمة وراحت تتوسّل إليّ أن أشفق على الإنسان الفاني الذي استسلم لمطامعه ومطامحه التي جعلته يتمرّغ في أوحال المذلة، فأشفقت عليه، وأخذت ذبيحة سلخت عنها جلدها فخِطْتُ لكما ثوبين يستران عورتيكما فكانت تلك الذبيحة هي رمز لما هو آت وإشارة إلى خطة الخلاص.
ولكن الإنسان ظل متورَّطًا في إثمه وفجوره، واستمر في ضلاله وخيانتي إذ ِشرع يعبد آلهة أخرى من صنع يديه؛ فأرسلت إليه رسالة حب ثانية فيها وعدٌ ووعيد. فاستهتر بوعدي وسخر من وعيدي؛ ولكني أطلت عليه أناتي نحو مئة وعشرين سنة يحذرهم فيها عبدي الأمين نوح من شرٍّ مقبل لعلهم يرعوون. فلم يأبهوا لإنذاري، ولم يكترثوا لتحذيري بل استرسلوا في عهرهم،؛ واستخفُّوا بنوح وكرازته فأنزلت عليهم صواعق غضبي حتى قضى عليهم الطوفان ولم ينجُ منه سوى نوح وأسرته لأن محبتي أبت علي حتى في إبان احتدام غيظي أن أهلك الجنس البشري بأسره. وهكذا أضحى نوح وعائلته بداية حقبة جديدة في التاريخ.
غير أن الإنسان الذي نخرت الخطيئة قلبه، عاد من جديد يلغ من حمأة الصديد وتغاضى عن نواهي الله، تناسى ما أصابه من ويلات، وما تعرَّض له أباؤهم من عقاب، فتفاقم شرهم حتى بلغ عنان السماء. ولكن وفاءً مني لعهدي الذي قطعته مع عبدي نوح لم أمحُ البشرية كما فعلت في زمن الطوفان بل أنزلت بهم ضربات مختلفة كما حدث مع سدوم وعمورة؛ ومع ذلك لم يرتدعوا ولم يَعتبروا، حتى شعبي الذي اخترته ليحمل اسمي بين الأمم زنى وراء آلهة أخرى فعبدوا البعل وعشتاروت وغيرهما من آلهة الشعوب الوثنية مع أنهم رأوا عجائبي التي صنعتها في أرض مصر وكيف حررتهم من نير العبودية التي استنزفت دماءهم وأخضعتهم للمذلَّة، وأقمت لهم ملكًا دانت له الشعوب الأخرى. أردت لشعبي هذا أن يحمل رايتي ويمجد اسمي فيكون كارزًا لي وقلت لهم “البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطية”. ولكنهم ظلوا يعرجون بين الفرقتين ولا يلتفتون إليّ إلا حين أُداهمهم بالضربات فيستغيثون بي في ضيقهم فأنقذهم لأن محبتي لم تخبُ قط.
ثم أرسلت إليهم بل للبشرية برمتها رسائل حب حملها إليهم أنبيائي عبر العصور مفعمة بالوعود والمواعيد. فمنذ زمن كليمي موسى ومن بعده يشوع الذي تحدّى شعبي حين قال لهم في خطبة الوداع حتى لو انحرفتم جميعًا عن عبادة الرب الحي “أما أنا وبيتي فنعبد الرب”. إلى عهود بقية أنبيائي من صموئيل، وداود، وسليمان، وإشعياء، وإرمياء، وحزقيال وغيرهم، بعثت إليكم نفس الرسالة وإن كانت بأساليب مختلفة. لقد بلَّغ هؤلاء الأنبياء رسائل محبتي بكل صدق وأمانة وأثقلوها بكل إنذاراتي أيضًا التي توعّدت بها لأنني علمت أن الإنسان ميال للشر، تطوِّح به أهواء قلبه بعيدًا عني. ولكن في جميع هذه الرسائل أنبأت بمجيء مخلص العالمين؛ هذا المخلص الذي تاقوا جميعًا أن يروا مجده ولو من بعيد. ولكن ملء الزمان لم يكن قد حان بعد. أجل لقد شاهدوا بعض بهائه في رؤاهم وأحلامهم وخرّوا أمامه سجَّدا، ولكنهم لم يروه في كامل مجده الذي له عند الآب السماوي منذ الأزل.
ولكن جميع رسائل محبتي وإنذاراتي لم تجد الإنسان المتصلب الرقبة نفعًا. وعندما طفح الكيل ‘وبلغ السيل حد الزبى’ دفعت أممًا أجنبية وملوكًا قساة لكي ينتقموا من هؤلاء الجاحدين الذين احتقروا محبتي، واستهانوا بكرامتي، ودنَّسوا رسائلي فحُقَّتْ عليهم الدينونة فشردتهم إلى أقاصي الأرض. ولكن على الرغم من فيضان كأس غضبي واحتدام جمرة سخطي لم أنسَ عهدي الأبدي بأن مخلصًا وحيدًا لا بدَّ أن يأتي إلى العالم ليفتدي البشرية من قصاصي، ويكفِّر عن إثم كل من يؤمن به وبموته على الصليب فيكون هو الذبيحة العظمى التي تلغي كل ذبائح الكفارة الأولى التي أمرت بها والتي لم تكن سوى رموز مؤقتة تحققت في المسيح فلم يعد للعالم بها حاجة.
إن المسيح هو رسالة محبتي الأخيرة التي أرسلتها للجنس البشري قاطبة. فيه تمت كل رسائلي، بل فيه جمَّعت كل حبي “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية”. لم أرسله برسالة لأنه هو الرسالة بذاتها:
“اَللهُ، بَعْدَ مَا كَلَّمَ الآبَاءَ بِالأَنْبِيَاءِ قَدِيمًا، بِأَنْوَاعٍ وَطُرُق كَثِيرَةٍ، كَلَّمَنَا فِي هذِهِ الأَيَّام الأَخِيرَةِ فِي ابْنِهِ، الَّذِي جَعَلَهُ وَارِثًا لِكُلِّ شَيْءٍ، الَّذِي بِهِ أَيْضًا عَمِلَ الْعَالَمِينَ، الَّذِي، وَهُوَ بَهَاءُ مَجْدِهِ، وَرَسْمُ جَوْهَرِهِ، وَحَامِلٌ كُلَّ الأَشْيَاءِ بِكَلِمَةِ قُدْرَتِهِ، بَعْدَ مَا صَنَعَ بِنَفْسِهِ تَطْهِيرًا لِخَطَايَانَا، جَلَسَ فِي يَمِينِ الْعَظَمَةِ فِي الأَعَالِي” (عبرانيين 1: 1).
وهذه الرسالة لم تكن كبقية الرسائل السابقة لأنها كانت رسالة حية تجسدت بابن الإنسان المخلص المنتظر.
وكما أحب الله الآب العالم ولا سيما الذين يؤمنون به كذلك فعل الابن الفادي “إذ كان قد أحب خاصته أحبهم إلى المنتهى”.
وقد قال المسيح نفسه في حديثه الحميم مع تلاميذه: “لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا: أَنْ يَضَعَ أَحَدٌ نَفْسَهُ لأَجْلِ أَحِبَّائِهِ” (يوحنا 13:15).
إن رسالة الحب الأخيرة هذه هي رسالة لا تضاهيها رسالة أخرى لأنها رسالة “ذات” فيها كل تضحية، وبذل، وعطاء، وخلاص، أساسها الحب الذي يفوق كل عقل.
ثم بعد ذلك في اليوم المخوف العظيم تحل دينونة رافضي هذه المحبة التي لا نجاة منها.
خالقك،
الله