ثلاث مؤسسات مؤثرة كثر الحديث في أيامنا هذه عن أزمات طارئة تظهر فجأة على ساحات الشعوب فتعاني منها وتهدد أمنها وسلامها. وشعوب العالم اليوم تتداخل مصالحها ببعضها البعض، فما يؤذي شعبًا من شعوبها سرعان ما يمتد أذاه إلى الشعوب الأخرى. حتى قيل إن العالم أصبح قرية صغيرة، ما يصيب طرفًا منها يؤثر في الأطراف الأخرى. ومن أمثلة ذلك، لو تعرّض بلد ما للأوبئة الفتاكة، أو للزلازل، أو الفيضانات، أو الحرائق التي تحصد أشجار الغابات. فعندها نلاحظ أن الدول تتنادى لمساعدة الدولة المتضررة لإمدادها بالمواد الطبية، أو المعونات المالية، أو الخبرات العلمية للقضاء على المشكلة القائمة قبل استفحالها.
فالتعاون في مثل هذه الأزمات مطلب ضروري لتفادي مزيد من الأضرار والمآسي. إنما هذه الصورة الإيجابية من تعاون الشعوب لا بد أن تترسخ أولاً في نفوس الأفراد في المجتمع الإنساني نحو بعضهم البعض رغم اختلاف طوائفهم ومعتقداتهم. والسؤال الآن، من يمكن أن يغرس بذور التعاون، والحب، والودّ، والتسامح، والانتماء الإنساني للعائلة البشرية بغض النظر عن الفروق في اللون أو الدين أو الحضارة؟
سأتحدث اليوم عن ثلاث مؤسسات مؤثرة في تنشئة الأجيال لبناء مجتمع مرنٍ، إيجابي، متعاون، غير منعزل أو متعصب كالصور المؤسفة التي نراها من حولنا لشعوبٍ بُنِيت على أيديولوجيات منغلقة ومع ذلك تتعالى على كل من لا يسلك معها في دربها.
أولا: الدولة فالدولة مسؤولة عن نشر الوعي، وغرس المبادئ الانسانية في نفوس شعبها سعيًا لتنشئة أجيالٍ متحضرة إنسانية، وذلك من خلال المؤسسات التعليمية من مدارس ومعاهد. فمن خلال مناهج التربية والتعليم يتعرف أطفال المجتمع على أسس التّحضّر، والتعايش، والتسامح، واحترام حقوق الآخرين سواء في مجتمعاتهم المحلية مع مواطنيهم أو مع المجتمعات الأخرى من خارج أوطانهم، باعتبار أنهم يشكلون معهم المجتمع الإنساني الكبير. فالمناهج التربوية المعتمدة بإشراف الدولة يكون لديها القدرة بأن تغرس الإيجابيات في نفوس الأطفال منذ حداثتهم على الحب والخير لكل الناس بلا تمييز أو ترفّع.
والمناهج التربوية أيضًا – لو شاءت – يمكن أن تغرس فيهم روح الغطرسة والعزلة عن المجتمعات الأخرى، وأن تزرع في نفوس الأطفال والأحداث الإحساس بالتعالي على الآخرين، وبأنهم هم أفضل مَنْ في الوجود، وأن الآخرين في ضلالة، وهم وحدهم من يمتلكون الحقيقة دون غيرهم! فيتخرج الطالب من مدرسته مشحونًا بالحقد، والتعصب، والتعالي على الغير؛ والأطفال أبرياء يتوهمون بأن كل ما يقوله مرشدهم التعليمي أو الديني هو عين الحق، فينشأ هؤلاء حاقدون على كل من لا يسير بدربهم وينهج نهجهم، وهذا بالتالي يخلق فيهم ما يسمى بالعزلة أو التباعد الحضاري. ومع مرور الزمن، عندما يتلاقى أفراد من هذا المجتمع الضيق التفكير مع أفراد من مجتمعات أخرى تتداخل الأمور وينشأ بينهم ما يسمى بالصراع الحضاري نتيجة للاختلال في التوازنات الحضارية. ومن معطيات هذه الغطرسة تكون الدولة هي أول من يتضرر – في سمعتها، وسياستها الخارجية، وفي محدودية تعامل الآخرين معها وثقتهم بها. وكما يقول الإنجيل: ما يزرعه الانسان فإياه يحصد أيضًا، والأمثلة على هذا كثيرة ومعروفة… وعندما يقع الأذى تبرز على السطح المبررات فتنسب الأمور إلى مداخلات خارجية وإلى الاستعمار، علمًا أن الاستعمار قد غادر ورحل قبل أكثر من نصف قرن وأجيال اليوم عاشت وتربت في أحضان دولٍ مستقلة ذات سيادة.
ثانيا: مؤسسة البيت والعائلة يقول علماء التربية النفسية أن شخصية الطفل تتحدد معالمها على مدى حياته خلال السنوات الثلاث الأولى من عمره. وهذه سنوات مبكرة في حياة الطفل يصرفها بين أهله وذويه. فبالطريقة التي نتعامل بها مع أطفالنا، نحن نبني شخصية الطفل ونحدد معالمها في هل يكون مسالمًا أو عدوانيًا، مرنًا أو متشددًا، عصبيًا أو هادئًا، حقودًا أو متسامحًا؟ وهل سيكون باشًّا متفائلاً أو متجهّمًا عبوسًا، وهل سيكون معطاءً أم بخيلاً أنانيًا. وهنا أقول للآباء والأمهات: لقد وضع الله بين يديك أمانة لترعاها، والأمانة وصلتك بريئة لا تعرف الحقد، ولا الكراهية، ولا النفاق، ولا التعصب، ولا الكذب، ولا شتيمة الآخرين، فأحسن تربيتها… وهي فرصتك لتغرس في تربتها الطيبة والحب بدل العداء، والتسامح بدل النقمة، واللين بدل التشدد، واللطف بدل الخشونة، وعناصر الخير بدل الشر. وعندما يكبر ابنك، فأنت أولى من سيجني ثمار ما زرعت إن خيرًا أو شرًا.
وأنت أول من سيرفع رأسه عاليًا بفخر عندما تسمع مديح الناس لابنٍ ربيته. ثم قارن ذلك بمن ربّوا أولادهم على التعصب، وشحنوهم بالحقد والكراهية، وحقنوهم بروح الانتقام والتعالي على الآخرين. ولعلك تعرف بعضًا منهم في السجون أو التشرد هاربين من وجه العدالة، أو في التسكّع في الشوارع والأزقة، بينما غيرهم من أجيالهم نشأوا في دفء العائلة على الحب وحسن التربية، وقطعوا أشواطًا في النجاح يعتزّ بها والدوهم.
ثالثا: المؤسسة الدينية المؤسسة التي تُؤثِّر في تنشئة الأجيال هي المؤسسة الدينية، أو سمّها ما شئت: الكنيسة، المسجد، الخِلْوة الدينية، المعاهد الدينية كالمعاهد الشرعية أو اللاهوتية. سميناها المؤسسة الدينية، وليس الدين لأن المؤسسة الدينية تصيب وتخطئ، فالعاملون في المؤسسة الدينية هم بشر يصيبون ويخطئون، أما الدين فليس موضوع نقدٍ أو تجريح.
المؤسسة الدينية هي المرجع الذي ننتمي إليه جميعنا ونتأثر به على درجات متفاوتة. فبعضنا يأخذ الأمور الدينية “بعباطة” وتشدّد، وبعضنا بتركيزٍ واتزان، والبعض الآخر “سوَّاح”! والمؤسسة الدينية عندما لا تحسن عملها، أو عندما تغالي في التشدد تنحرف، وتحرّف الأمة معها لتدخل في صراعات واجتهادات بين طوائفها؛ بعضها يكَفِّر البعض الآخر، فيفقد الناس رؤيا الصواب! ومن ناحية أخرى فقد يؤخذ الناس بفذلكة رجل بارع يعرف كيف يشد الجماهير إليه في خُطَبِهِ الرنانة، أو مواعظه الحماسية، أو من خلال كتاباته الملتهبة… يدغدغ بها مشاعر الناس فيجرهم إلى الانحراف عن حقيقة الدين وهم غافلون، ورغم ذلك يصفقون له! الشارع العربي اليوم مليء بالمتناقضات الدينية حتى ضمن العقيدة الواحدة.
فهل تنبَّهَت المؤسسة الدينية إلى ضرورة مراجعة الذات وتقييم ما يجري لإحداث التغيير؟! أعطي هنا مثالاً من التاريخ أختم به هذا الموضوع: الكنيسة المسيحية مرت في حقبة من الحقبات بهذه التجربة المرة، ففي العصور الوسطى – أو ما يسمى بالعصور المظلمة – كانت الكنيسة قد تولّت الأمور السياسية والدينية معًا على أساس دين ودولة حتى أخضعت ملوك أوروبا لسلطان رجال الدين الكبار. فنتيجة لهذا تردّى الحال وغابت الرؤيا وتربّعت الكنيسة على قمة الهرم فوق الملوك، وكل قرارٍ إداري عالٍ كان يجب أن يخضع لرقابتها. فكانت كمن يملك الفيتو في عصرنا الحاضر… إلى أن منَّ الله وجاء الإصلاح الديني فانتفض الشعب من أسره، وتراجع سلطان الكنيسة إلى حدوده الطبيعية، فدخل المجتمع الأوروبي بعدها بعصر الانفتاح، وانفكّت العقول من عقالها، وقامت الثورة الصناعية، وانتعش الاقتصاد، واحتُرم الإنسان، وظهرت مواهب الإبداع، وعمّ الرخاء، واستمر هذا في تصاعد.