يطول الحديث ونحن نبحث في براهين هوية المسيح، وقد يُخيَّل للبعض وكأن المسيح الذي نتحدث عنه شخص مبهم أو أسطوري… بينما الحقيقة أن الإبهام إن وُجد فهو في من يريد التعرّف على الحقيقةِ في استحياءٍ أو وَجَلٍ ويتردّد في الانفتاح لاستيعاب المعلومة من مصدرها، ومن ثمّ مناقشتها أخذاً وردّاً في إطارٍ من الحوار الهادئ. فالحوار الديني مشروع طالما أن الحوار يجري في نطاق من الاحترام بين المتحاورين.
هناك ظاهرة لدى البعض مفادها أن صاحب المعتقد الدينيّ غالباً ما يعتقد أنه هو دائماً على صواب وأن الخطأ حتماً من نصيب الطرف الآخر
فمن يضمن يا صديقي أنك أنت على حق وغيرك على باطل؟ وماذا ستفعل لو اكتشفت في يوم الدّين أن الحقيقة التي تمسّك بها الطرف الآخر كانت على صواب، وأن مَن دفعك لإسقاطه تسبب لك بكارثة، ولن يشفع بك في يوم الدين؟
جاءوا يوماً بجهاز كمبيوتر وأدخلوه إلى مكتبي لأول مرة، فوقفت مذهولاً أمام الجهاز؛ فكلّ ما فيه كان مبهماً بالنسبة لي، ولا أعرف كيف أشغّله، ولم أكن قد تدرّبت عليه. وبعد أن غابوا حاولتُ في عبثي أن أستطلع شيئاً فيه، فاستهديت إلى مفتاح التشغيل وضغطت الزرَّ فأضاءت الشاشة أمامي وبدت عليها أرقام وكلمات ورسومات لم أفهم منها شيئاً. وضغطت أزراراً أخرى للخروج من المأزق ولم أعد أفهم من أين بدأت وإلى أين أنتهي. واحترت في أمري، ماذا أفعل؟ كيف أوقف الجهاز عن الحركة دون أن أتسبب في تعطيله؟ حتى حضر من حضر ممّن ألمَّ بهذا العلم فقام بالواجب، وبقيت أنا في ذهولي لا أستوعب الأمر!
فالسؤال الآن: أين كان الخطأ فيما أسلفت؟ هل في جهاز الكمبيوتر الذي يختزن من العلم والمعلومات الكثير الكثير، أم في جهلي لطبيعة الكمبيوتر وكيفية استيعابه؟
وبنفس الطريقة، فالمسيح ليس غامضاً ولا مبهماً، بل هو أوضح من نور الشمس لمن أراد أن يعرفه ويسعى لمعرفته بإرادة حرة… فمن رغب في ذلك ما عليه إلا أن يقترب إليه بذهن مفتوح ويقرأ إنجيله. فالانفتاح يمنح القدرة على الاستيعاب للتعامل مع مصدر المعلومة بوعيٍ وتفهّمٍ.
ثم من ناحية أخرى فالمسيح ينادي للحوار، ويدعو إليه. وهو يرفض الانغلاق والتعصُّب وعدم الانفتاح على الآخر، وها هي ديانته منتشرة في كلّ ربوع الأرض، شقت طريقها بين جميع الحضارات، واستطاعت أن تتعايش مع الجميع دون أن تتخلّى عن مبادئها. وسرُّ نجاحها يكمن في شخص المسيح نفسه من خلال تعاليمه وأقواله التي دوَّنها الإنجيل. فهو قد جالَسَ الخطاةَ والمعارضين له وتحدَّث إليهم، وسمع منهم وعالج قضاياهم باللّين والحوار، بل ودافع عنهم وأعطاهم فرصاً ليتقبلوا ما جاء من أجله، لذلك قال:
“اِحْمِلُوا نِيرِي عَلَيْكُمْ وَتَعَلَّمُوا مِنِّي، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ. لأَنَّ نِيرِي هَيِّنٌ وَحِمْلِي خَفِيفٌ”. انجيل متى 11: 28- 30
ما أروعها من دعوة لكلّ المتعبين بسبب ضغوطات الحياة وتجاربها، وبسبب أثقال الخطية وما تسبّبه من متاعب، والمسيح مستعدّ للمعالجة. إنه يقول: “تعلموا مني… فتجدوا راحةً لنفوسكم“. ويقول: “نيري هين – نير الإيمان، وحملي خفيف، بمعنى أنني لن أُثقل عليكم لو أقبلتم إليَّ، فأنا أدعو لراحتكم… الخطية تتعبكم… إبليس يرهقكم، وأنا أتيت لتكون لكم الراحة!!
وفي مكان آخر يقول يسوع:
“هنَذَا وَاقِفٌ عَلَى الْبَابِ وَأَقْرَعُ. إِنْ سَمِعَ أَحَدٌ صَوْتِي وَفَتَحَ الْبَابَ، أَدْخُلُ إِلَيْهِ وَأَتَعَشَّى مَعَهُ وَهُوَ مَعِي”. سفر الرؤيا 3: 20 فالواقف على الباب من خارجه ويقرع، هو شخص يدعو للحوار، لا يقتحم ساكن البيت، مع أنه يملك القدرة أن يكسر الباب ويدخل، لكنه يريد الحوارَ الحُبِّي، فلا يرفع عصاً بوجه أحد، ولا يهدِّد أو يقتحم، ولا يحمل سيفاً في وجه من عانده، ومن أراد أن يقبل إليه حباً به باركه، ومن لم يرد لا يُجْبِرُهْ ولا يعاديه بل يترك له الفرصة لعله يعيد النظر في ما هو عليه ويندم.
ملايين الناس من كلّ الشعوب استمعوا لنداء المسيح ذاك: “تعالوا إليَّ”، واستجابوا له، وتغيروا، وتمتّعوا بسلامٍ في القلب وراحةٍ في النفس، فزالت عن كواهلهم أثقال خطايا ارتكبوها، وانتفى الخوف من الموت، والقبر، والمصير الأبدي. وتغيرت حياتهم للأفضل، والناس من حولهم لاحظوا التغيير.
توقفت اليوم عند كلمات نطق بها المسيح حين قال: “وَهَا أَنَا مَعَكُمْ كُلَّ الأَيَّامِ إِلَى انْقِضَاءِ الدَّهْرِ”. انجيل متى 28: 20 فهو هنا يخاطب من يستجيبون لدعوته على مدى التاريخ، يقول: ها أنا معكم مع توالي الأيام إلى انقضاء الدهر.
وأتساءل: مَنْ مِنَ عظماء الدين في التاريخ تجرّأ وقال لشعبه أو لأتباعه أن يبقى معهم كلّ الأيام إلى انقضاء الدهر؟ والدّهر هو امتداد الزمن، والزمن لا ينتهي إلا بحلول يوم القيامة. صحيح أن عظماء العالم وأنبياءه المكرّمين خدموا شعوبهم في فترة حياتهم على الأرض ثمّ غابوا، أما المسيح فهو الحي القيوم الذي يعد بما يقدر على تنفيذه. والمسيح قادر، وقدرته لا حدود لها. فمن يقول مثل هذا الكلام لا بدَّ أن تتوافر فيه القدرةُ فوق نواميس الطبيعة وامتلاك ديمومة الحياة.
والصفتان متوافرتان في المسيح. قال له الأبرص: يا سيد، إن أردت تقدر أن تطهرني. فرد عليه قائلاً: أريد فاطهر، فذهب عنه البرص في الحال. والبرص مرض مستعصٍ، لا العلاج ينفع به ولا الرُّقية. ولأن المسيح قادر، فالطبيعة بكل نواميسها تخضع له. فقد رأيناه يصنع عجباً في إقامة الموتى، وإسكات الأمواج الهائجة في البحر، وانتهار الريح فتهدأ، فهو يمتلك السلطان ليفعل ما يشاء ونواميس الطبيعة تنحني طوعاً لأمره.
ثم هو حيّ دائم الحياة! صحيح أنه مات لغرض جاء من أجله، فبموته تحمّل عنا عذاب خطايانا، لكنه في اليوم الثالث قام وغلب الموت، وداس القبر، وأزال مخاوفه، ولن يسود عليه الموت فيما بعد، وها قبره اليوم قبراً مفتوحاً مُشَرَّعَ الأبواب يشهد على صدق الحدث. ولأنه حيّ فهو سيعود ثانية إلى هذه الأرض ليجمع ثمار ما نادى به وعلّمه عبر القرون.
ولأنه حي يتفاعل مع شعبه، يتحدث إليهم، ينير الطريق أمامهم ويشدّ من أزرهم.