عندما جاء المسيح إلى العالم متجسدًا، ماذا كان موقف العالم منه وكيف استقبله؟ لقد أظهر الجهل والعداوة نحوه، فنقرأ أنه «كان في العالم، وكُوِّن العالم به، ولم يعرفه العالم» (يوحنا1: 10). لقد تحرك وسط الناس، و«جال يصنع خيرًا ويشفي جميع المتسلط عليهم إبليس». عاش يتعب ويخدم ويُظهِر الحنان، يمسح الدموع ويخفف الآلام والأحزان، يُعلِّم ويكرز ويشفي ويُطعِم. ومع ذلك فقد جَال في الأرض مُهَانًا مُستهدَفًا للعَناء. والسؤال: لماذا؟ الجواب: لأن حياته القدوسة كشفت شرَّ العالم وفساده. وليس فقط العالم لم يعرفه، لكنه أبغضه، لأنه كان يشهد عليه أن أعماله شريرة (يوحنا7: 7).
ظل العالم يرفض المسيح ويبغضه حتى بلغت العداوة ذروتها عند الصليب، حيث تَكَتَّل العالم كله بزعامة الشيطان؛ رئيس هذا العالم، وثار ضد ابن الله. وكانت العداوة صارخة حتى الموت، فقتلوه مُعَلِّقين إياه على خشبة. وبالحقيقة اجتمع على مسيح الله القدوس، الوديع الرقيق، هيرودس وبيلاطس مع أمم وشعوب إسرائيل، واتفقوا جميعًا على صلبه. وعقوبة الصلب تتضمن كل معاني التشهير والتعيير والكراهية والمَهانة والقسوة والنجاسة واللعنة فإن «المُعلَّق ملعون من الله» (تثنية21: 23). وكانت عقوبة الصلب تُطبَّق على القتلة والثوار والمتمردين الذين اقترفوا أبشع الجرائم. ونحن لا نندهش أن يحدث هذا مع اللصين اللذين صُلِبا معه، أما أن يحدث هذا مع المسيح الذي لم يفعل شيئًا ليس في محله، فهذا هو كل العجب! لقد كتب بيلاطس عِلَّته أي التهمة التي وُجِّهَتْ إليه، ووضعها فوق الصليب وكانت هكذا: «يسوع الناصري ملك اليهود». وكانت مكتوبة بالعبرانية (لغة الدين)، واليونانية (لغة الفلسفة)، واللاتينية (لغة الدولة والسياسة). وكأن العالم كله قد اشترك في جريمة صلب ابن الله .
لقد قال الرب يسوع في حديثه الأخير للجموع قبيل الصليب: «الآن دينونة هذا العالم» (يوحنا12: 31). فلقد أظهر الصليب وكشف بكل وضوح حقيقة هذا العالم من حيث الخيانة والغدر، والجفاء والهجر، والظلم والقهر، كما أظهر الجمود والجحود نحو مَن أظهر رقة القلب الودود. بدل محبته خاصموه، ووضعوا عليه شرًا بدل خير وبُغضًا بدل حبه. ولم يحدث أن ظهر العالم بوجهه القبيح مثلما ظهر عند الصليب. فالصليب قد فضح شر العالم بكل فئاته: العظماء والأدنياء، رجال الدين ورجال السياسة، اليهود والأمم، العسكر والمدنيين.
لقد حوكم رب المجد أمام رؤساء الكهنة وشيوخ الشعب الذين كانوا يطلبون شهادة زور على يسوع حتى يقتلوه، وأخيرًا أوثقوه ومضوا به إلى بيلاطس (متى27: 1)، وقالوا: هذا الإنسان يُفسِد الأمة، ويُهَيِّج الشعب، ويمنع أن تُعطَى جزية لقيصر، ويقول عن نفسه إنه مَلِك. وفي المحاكمة صرخوا قائلين: اصلبه اصلبه!! وأمام الاختيار: يسوع أم باراباس؟ كان الجميع يصرخون: ليس هذا بل بارباس، وكان باراباس لِصًّا! وأخيرًا قالوا لبيلاطس: ليس لنا مَلِك إلا قيصر!
أما بيلاطس؛ ذلك الحاكم الروماني، مع أنه كان مقتنعًا تمامًا أنهم أسلموه حَسَدًا، وقد فحصه ولم يجد فيه عِلَّة واحدة، ولم يفعل شيئًا يستحق الموت، هكذا صرَّح وأعلن عدة مَرَّات، فقد حكم عليه بالجلد، ثم بالصلب، وبعد كل هذا غسل يديه وقال: «إني بريء من دم هذا البار»! وهكذا نرى أنه في موضع العدل كان هناك الظُلم الصارخ، وإن كان بيلاطس يعتبر نفسه بريئًا، فمن يكون المذنب؟!
هذا ما فعله العالم في المسيح. لقد أظهروا كل شرٍّ وكل حقدٍ وكل عُنفٍ للذي أظهر كل لطفٍ وكل عطفٍ وكل حبٍ وكل رفقٍ. والسؤال الآن: هل تغيَّر موقف العالم من المسيح؟ هل شعر بالندم؟ هل قَبِل المسيح بالحب والوفاء ربًّا ومُخلِّصًا؟ بالأسف كلا. إنه بذات المشاعر العدائية الرافضة إلى يومنا هذا والتي تعكس العداوة لله. والمؤمن الذي ارتبط بالمسيح يدرك أنه يتبع مسيحًا مرفوضًا من العالم، وأن هذه التبعية ستُكَلِّفه حمل العار والاحتقار لأجل خاطر سيده.
يقول الرسول بولس: «أما من جهتي فحاشا لي أن أفتخر إلا بصليب ربنا يسوع المسيح، الذي به قد صُلِب العالم لي وأنا للعالم» (غلاطية6: 14). فالمسيحي الحقيقي يرى العالم من خلال الصليب، ويعرف ماذا فعل في المسيح. إنه يرى عظمة العالم وغناه ومجده ومباهجه وامتيازاته كلها قد فقدت بريقها وما عادت تجذبه أو تحركه، ولن يعود يبحث عنها أو يلهث وراءها أو يُعجَب وينبهر بها. وكيف يصبح العالم غرضًا له ومكانًا لراحته وسعادته بعد أن ظهرت حقيقته في الصليب؟!
إن محبة العالم هي عداوة لله، ببساطة لأن العالم صلب ابن الله. إنها خيانة للآب وللابن أن تكون في صداقة وود مع العالم، وتضع يدك في يد هذا النظام الفاسد الذي تلطَّخت يده بجريمة صلب ابن الله.
ثم أنا نفسي قد صُلِبتُ للعالم ولم أعُد من خاصته. فالصليب قد قطع العلاقة بيني وبين العالم. والمسيحي الحقيقي، بارتباطه بالمسيح، قد صار في نظر العالم ميتًا. وبريق العالم يمكن أن يجذب شخصًا حيًّا، ولكن ماذا يعمل لشخص قد مات. والصليب يتضمن ما هو أكثر من الموت، حيث ظهرت هناك العداوة والشراسة نحو المسيح الذي نحبه وننتمي إليه. هذا يكفي لأن يفصلنا عن العالم، ويُفقِده كل جاذبية أو سيطرة علينا، وليتنا نقنع بذلك فلا نعبأ بابتسامته ووعوده أو عبوسته ووعيده!
وعندما نلقي نظرة على ما يجري حولنا في الساحة الآن، سنرى أن العالم لم يختلف في سِمَاته وفساده ومعاييره المُختَلَّة عما كان من البدايات أو عما ظهر عند الصليب. فالكذب وتزييف الحقائق، والإرهاب باسم الدين، والتكَتُّل والوقوف في صف الإرهاب، والدفاع عنه بكل قوة واستماتة، ودعمه، ومعاقبة كل من يرفع صوته معترضًا، وذلك لأجل المصالح الشخصية. بينما لا يستاء هؤلاء ولا يتحرك لهم ساكن عندما يرون العنف والقتل والترويع والتعذيب وحرق الكنائس والممتلكات العامة والخاصة واغتصاب الحقوق! فلم تَعُد المبادئ تُحترَم حتى عند أعظم الدول في العالم. ورغم الحقائق الواضحة كالشمس، فإنه يخفَى عليهم بإرادتهم. هذا هو العالم الذي يحكمه الشيطان ويسود عليه سلطان الظلمة. وحقًّا قال الكتاب: «إن رأيتَ ظُلم الفقير ونَزْع الحق والعدل في البلاد، فلا تَرْتَعْ مِن الأمر، لأن فوق العالي عاليًا يُلاحِظ، والأعلى فوقهما» (جامعة5: 8). إننا نتطلع إلى “العالم العتيد” الذي يسود فيه البر والسلام عندما يملك المسيح على كل الأرض.