ننظر عادة إلى أرضنا هذه وكأنها ثابتة وغير قابلة للتزعزع. وما أن يحدث زلزال قريب منا حتى وتضحي الأرض عدوة لنا. وليس هناك من خوف يشابه الخوف الذي يلم بالإنسان عندما تتزعزع أساسات اليابسة تحت قدميه.
وما ينطبق على الأرض يمكن أيضاً ذكره بالنسبة إلى حالة البشرية في أيامنا هذه. نحن نعيش في زمان قد تزعزعت فيه أساسات الحياة
البشرية بشكل لم يحدث منذ فجر التاريخ. فلا عجب إذن إن أخذ الخوف يسيطر على جميع نواحي حياتنا المعاصرة!
كيف يمكننا أن نحافظ على هدوء النفس والاتزان العاطفي في عالم مهدد بالدمار في برهة وجيزة من الزمن بفضل اختراعات الإنسان الفتاكة؟
كيف يقدر الأب أن ينظر إلى أسرته بدون أن يملأ قلبه اليأس؟
كيف تستطيع الأم النظر إلى أولادها وهي لا تعلم ماذا سيحدث لهم في الجيل القادم؟
هناك البعض من الناس الذين لا يودون مواجهة حالة البشرية المحزنة وهم يغمضون عيونهم ويطردون من عقولهم كل الأفكار التي تتعلق بمصير الإنسانية والعالم. لكن هذا التصرف هو غير حميد، لأنه ماذا ينتفع الإنسان إذا تشبّه بالنعامة التي تتجاهل الخطر المحدق بها عندما تضع رأسها في الرمل؟ على الإنسان أن يعترف بوجود المخاطر العديدة التي تعكِّر صفو حياته. لكن هذا لا يعني أن الطريق الوحيد المفتوح أمامه هو طريق التشاؤم المطلق.
هناك طريقة فعالة للتغلب على جميع مخاوف عصرنا وهي طريقة الإيمان. لا الإيمان بالإنسان وبمقدرته على التغلب على صعاب القرن الحادي والعشرين بل الإيمان بالله تعالى خالق السماء والأرض والكون… الإله الذي أعلن ذاته في كلمته، في الكتاب المقدس. عندما نتسلح بهذا الإيمان الحي نستطيع مواجهة سائر مخاطر عصرنا بشجاعة وبروح واقعية. بهذا الإيمان القويم نُعطى القوة التي تساعدنا على العمل بشكل بنّاء وسط عالم مهدّد بالخراب. هذا هو الإيمان الذي يجعلنا نترنم ونقول مع صاحب المزمور 97: “الرب قد ملك فلتبتهج الأرض ولتفرح الجزائر الكثيرة”. هذا هو الإيمان الذي يعطي كل إنسان ثقة وطمأنينة لا يمكن الحصول عليهما في أي مكان آخر، لأن محتويات هذا الإيمان تعلِّم أن الله هو سيد الكون، وسيد هذا العالم – لا البشر – وأن كل شيء يسير بعلم الله وبمقتضى برنامجه الذي أعدّه قبل بدء العالم.
ليست هذه الدنيا تحت رحمة قوى حتمية عمياء، ولا تحت رحمة ظروف آلية ميكانيكية حسب تعليم الفلسفة المادية المعاصرة. الله هو ملك الكون بما فيه هذا العالم وهو رب العالمين.
إن نظرنا إلى عالمنا من وجهة نظر الإنسان المحدودة، وبدون أن نأخذ بعين الاعتبار تعاليم الوحي الإلهي – إن ابتدأنا بتحليل أمور وحوادث النصف الثاني من القرن الماضي حتى بداية هذا القرن فإننا نصل إلى الإقرار بأن الله هو المسيطر على عالمنا.
إن محاولة فهم العالم بدون معونة الله لهو مشروع فاشل لأنه ليس هناك معنى للوجود بدون الله – الإله الحقيقي – صانع كل ما في الوجود وضابط كل ما في الوجود. وهكذا يتوجّب علينا الرجوع إلى تعاليم الكلمة الإلهية… هذه التعاليم التي كاد أن ينساها إنسان القرن الحادي والعشرين الذي سكر بخمر مخترعاته المدهشة وصار يظن أنه سيد الكون وأنه ليس بحاجة إلى الله تعالى اسمه. وما أن نبدأ بقراءة صفحات الكتاب المقدس حتى نلاحظ توّاً أن الله الذي أعلن ذاته عبر التاريخ القديم للآباء والأنبياء في ملء الزمن بواسطة الرب يسوع المسيح، لم يتخلّ مطلقاً عن سيادته وعن سلطته، بل كان ولا يزال سيد الكون وملك الملوك ورب الأرباب. هذا الإيمان القوي الذي دفع المرنم إلى القول بإلهام الروح القدس: “الله ملجأ لنا وقوة، عوناً في الضيقات وُجد شديداً. لذلك لا نخشى ولو تزحزحت الأرض ولو انقلبت الجبال إلى قلب البحار…” وقرب نهاية المزمور يوجّه الله كلامه للمؤمنين به قائلاً “كفّوا واعلموا أني أنا الله. أتعالى بين الأمم، أتعالى في الأرض!” الإيمان بالله سيد الأرض وكل ما فيها دفع المرنم إلى القول في المزمور السادس والتسعون
“رنموا للرب ترنيمة جديدة. رنمي للرب يا كل الأرض. رنموا للرب، باركوا اسمه، بشروا من يوم إلى يوم بخلاصه. حدّثوا بين الأمم بمجده، بين جميع الشعوب بعجائبه. لأن الرب عظيم وحميد جداً، مهوب هو على كل الآلهة. لأن كل آلهة الشعوب أصنام، أما الرب فقد صنع السماوات. مجد وجلال قدّامه. العزّ والجمال في مقدسه… قولوا بين الأمم الرب قد ملك”.
الله هو الذي يحكم العالم
هذا كان إيمان شعب الله في شتى عصور التاريخ. فلقد اختبر تلاميذ وأتباع السيد المسيح حقيقة هذا الإيمان بالله إذ شاهدوا رجاء الكون بأسره وهو يضمحل بسرعة غريبة عندما رأوا المخلص وقد صُلِبَ خارج أسوار مدينة القدس. لكن الله أظهر سلطته على الموت والقبر، وأقام ابنه الوحيد من الأموات بقوة الروح القدس، وعندما رأى التلاميذ سيدهم الظافر رسخ إيمانهم بسلطة الله اللامحدودة، وتيقّنوا بأن السيادة المطلقة لم تكن لروما، ولا لجحافلها العديدة، ولا لرؤساء الكهنة الماديين، بل لمن قال لهم قبيل صعوده إلى السماء “دُفِعَ إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض”.
واختبر المؤمنون هذه الحقيقة وهم يعيشون تحت نير الإمبراطورية الرومانية التي كانت تدفعهم في الكثير من الأحيان إلى عبادة قيصر والامتناع عن عبادة الله الواحد. لكن هؤلاء لم يسمحوا لمجد روما الزائل الفاني بأن يطغى على مجد ربهم ومخلصهم الدائم، ولم يحجموا عن الاعتراف بالإيمان التام بسلطة الله على كل ما في الوجود وإن كلَّفهم ذلك دمهم. وقد أكّد الرب يسوع المسيح الظافر والجالس على العرش أهمية هذا الإيمان عندما قال في آخر سفر من الكتاب بواسطة عبده الرسول يوحنا الذي كان قد نُفيَ إلى جزيرة بطمس بالقرب من آسيا الصغرى “أنا هو الألف والياء، البداية والنهاية يقول الرب الكائن والذي كان والذي يأتي، القادر على كل شيء” (رؤيا 1: 8).
وقد يقول البعض: كيف نقدر أن نؤمن بأن الله هو الذي يحكم العالم؟ كيف نقدر أن نشترك مع صاحب المزمور ونقول “الله ملك”، ونحن نرى هذه الفوضى المسيطرة على عالمنا؟
إن الله يعلن ذاته كإله العدل والاستقامة، وها عالمنا مليء بالكراهية والبغضاء! أمِنَ الممكن أن يكون الله حاكم هذا العالم الذي نعيش فيه الآن؟
هكذا اعتراضات تُنسى أو تتناسى. قبل كل شيء، إن العالم الذي يحكمه الله هو عالم مليء بأناس خطاة وعصاة… إن بني البشر أنفسهم – لا الله تعالى – هم سبب الشقاء الذي يخيِّم على العالم. البشر الخطاة هم الذين سبّبوا الفقر، والبغض، والكراهية، والظلم، والطغيان، وسائر الشرور التي تسيطر على الحياة المعاصرة. وإذا ما تذكرنا هذا الأمر لا نعود ننتقد حكم الله لعالمنا هذا بل نشكر الله أنه يسمح للخطية بأن تأخذ مجراها الطبيعي وللشر الكامن في الإنسان بأن يصل إلى نهايته المطلقة.
الله هو الذي يسود العالم بالرغم من سائر الدلائل التي قد تشير إلى عكس ذلك. وهو لم يقف مكتوف اليدين عندما ثار عليه الإنسان في فجر التاريخ، بل بادر إلى معونة الإنسان الخاطئ بوضع تدبيره الخلاصي موضع التنفيذ. وقد تابع الله كشف ذاته للبشرية الخاطئة بواسطة الآباء والأنبياء إلى أن حلّ الوقت المعين وجاء المسيح يسوع لمواجهة الخطية والشر، والقضاء عليهما بشكل تام بموته على الصليب. طريقة الله لإنقاذ البشرية من مشاكلها قد أُعْلِنَت بكل جلاء ووضوح وما على البشرية إلا الرضوخ إليها فتنعم بالحياة والسلام؛ أو الاستمرار بالرفض والعصيان وإذ ذاك ليس أمامها سوى الشقاء والدمار.
الله هو الذي يسود العالم! أتؤمن بذلك؟
إن كنت قد آمنت بالله إيماناً قلبياً كما أعلن ذاته في كلمته المقدسة، وإن كنت قد اختبرت خلاصه العظيم في حياتك، وهكذا خضعت لسلطة الله معترفاً به كسيدك المطلق، فإن كلمة الله تؤكد لك بأن النصر هو لك على سائر تجارب الحياة. ومع أنك لا تنكر أن عالمنا اليوم هو عالم مليء بالمخاوف، وأنه أشبه بمدينة كبيرة مبنية قرب فوهة بركان هائل، وأن الثورة على الله هي أشدّ مما كانت عليه منذ فجر التاريخ، وبالرغم من كل ذلك تقدر أن تفرح وتتهلّل بأن الله هو المهيمن على هذا العالم، وأن زمام الأمور لم يفلت من يديه. وعندئذ إذ يغمر قلبك هذا الإيمان الحي تقول مع بولس الرسول ومع سائر المؤمنين: ونحن نعلم أن كل الأشياء – نعم حتى أشياء القرن الحالي – تعمل معاً للخير للذين يحبون الله، الذين هم مدعوون حسب قصده. آمين.