يومَ كنَّا صغاراً كنَّا نحلمُ باليوم الذي سنصبحُ فيه كباراً. ويومَ غَدونا كباراً رحْنا نتمنى أن نعودَ صِغاراً. ويوم كنَّا صغاراً أيضاً كنَّا نستغرب من الكبار حين نراهم يقلقون أو حتى يبكون. وكنَّا نقول في أنفسنا: لماذا يبكي الكبار؟ أليس بوسعِهم أن يفعَلوا ما يشاؤون وليس هناك مَن يمنعُهم؟ أليس همُ الآمرينَ ونحن المأمورين؟ فلماذا الكبار قلقون؟ وخائفون؟ مع أنَّهم في بعض الأحيان يضحكون؟ وهل مسؤوليةُ تربيتِنا نحن الصغار، هي التي تنهكهم حتى لَتَسْلِبَ الابتسامة من وجوههم، فنراهم يقلقون ويخافون؟ قالوا لنا مراراً وتكراراً: أنتم الآن لا تعرفون، ولستم تدركون. لكن متى كبرتم فلسوف تفهمون. عيشوا الآن عالمكم الصغير الجميل ودعونا نحن نحمل مسؤوليتكم لعلكم تقدّرون في يوم من الأيام.
تساؤلات لا تنتهي كانت تدور في رأسي يوم كنت بعد صغيرة. لكنها صارت تسقط تباعاً واحدة تلوَ الأخرى غداةَ انخراطي أنا في عالم الكبار وحين أضحيتُ واحدة من البالغات. وبدأتِ الحياةُ تعلِّمني درساً بعدَ الآخر في تحمُّل المسؤولية على المستويات كافَّة. وكلُّ ما اجتزتُ به من ظروف رغيدة سعيدة، وأخرى بائسة وحزينة، تركَ أثراً عميقاً في داخلي، في شخصيتي ونفسيَّتي، وجعلَني أرتقي وأنمو في معرفةِ معنى الحياةِ ومغزاها، فحواها وهدفَها. وأدركتُ أنَّه وفي كلِّ يومٍ يمرُّ ولطالما نحنُ على هذه البسيطة نعيشُ، لا بدَّ أن نواجه ظروفاً جديدة لم تكن تخطرُ على بالنا يوماً، أو لم ندوِّنها قطُّ في دفترِ مخططاتِنا. فنُفاجأ أحياناً، ونقف مندهشينَ أحياناً أخرى، ونحن محتارونَ وربما نعودُ لنوجِّه السؤالَ لكن لأنفسِنا هذه المرة: لماذا نحن منزعجون؟ قلقون؟ حائرون؟ وربما يائسون؟!
نعم، وفي مرحلةِ الحياة هذه، وقفتُ لأتساءل بحَيرةٍ وقلق وانزعاج، بخوف واضطراب، مَّما يجري لأمي التي أنجبتْني إلى هذا العالم وكانت ليَ المثال في التضحية، والتفاني، والعمل الدؤوب، والحب الذي لا ينضب. وقفتُ أتساءل عمَّا يجري معها وفيها ولها؟ ماذا يدور في داخلها حتى باتت منفعلةً لأقلِّ ما يحدث، وقلقةً بشكلٍ كبير، ومرهفةَ الحسّ إلى آخر حدٍّ. وقلتُ في نفسي: ربما هي متألمة من مرضها في الجسد؟ وصرتُ أجدُ العذرَ تلو الآخر لتصرُّفاتها وكلامِها ونظراتِها التي لم تعدْ كما كانت من قبل. حزَّ في نفسي وضعُها جداً، وفي كلِّ مرة كنت في طريقي إلى البيت بعد زيارتها، كنتُ أغوص في بحرِ أفكاري المضطربة في شأنها، حتى بدا لي هذا البحرُ الفكري دونَ قرارٍ. وما ألبثُ أن أعودَ لواقعي من جديد إثرَ سماعي كابحاتِ سيارةٍ أمامي أو صوتَ “زمّور” يخرقُ آذاني.
ساءتْ حالُ أمي الحنون، وصارت تعاملُني أحياناً بطريقةٍ غريبة، وتخبِّئ أغراضَها الخاصة بها في أماكن لا يمكن أن يفكّر فيها إنسان. ولمَّا استشرتُ الطبيبة في شأنها طلبتْ مني أن أجلبَ الوالدة إلى العيادة. وبعد أن أجرتْ عليها بعض الفحوصات، وطلبتْ منها أن تقلِّد بعض الرسومات على الورقة، تبيَّن لها أنَّ والدتي بدأت تعاني من مرضِ فقدانِ الذاكرة “Alzheimer”. وبادرتني للحال باسمِ طبيبة أخرى مختصة في هذا المنحى للمعالجة. وقع عليَّ الخبر، وأنا الكبيرةُ الآن، كوقعِ الصاعقة. وأحسستُ أنَّ قلبي قد غاصَ فيَّ ولو كان هناك ولدٌ صغير لتساءلَ كما كنت أتساءل أنا يوماً: لماذا هي قلقة وتبدو مضطربة؟ نعم، اضطربتُ، وانزعجت وقلت: وأيُّ مرضٍ هذا؟ وأنَّى لي أن أفقَهَ كُنهَهُ وأحُلَّ لغزه. ولم يمضِ بعدُ وقتٌ يسيرٌ على إدراكِي لمرضها الجسدي حتى صرختُ إلى الله إلهي وخالقي في حرقةِ قلب وقلت: يا رب، أعنِّي. واستغثْتُ بإلهي الذي يعرفُ كلَّ شيء ويرى كلَّ شيء.
ومضتِ الأيام، وتلتْها الشهور، وبعدها السنون، وحالُ أمي آخذٌ في الازدياد، إلى أن وصلْتُ إلى درجةٍ لم أعدْ أستطيع فيها القيامَ بواجباتها ورعايتها وتقديم العناية لها وحدي. وأحسست بالعبء يرهق كاهلي، ولم يكن عبئاً جسدياً فحسبْ، بل امتدَّ ليؤثِّرَ على نفسي وروحي. رفعْتُ عينيَّ مراتٍ ومرات إلى الرب من أجل أن يوجِدَ لي عوناً يحمل معي هذا العبءَ الثقيل. إلا أنَّني لم أجد. وفي أحدِ الأيام، وبينما أنا عائدة إلى بيتي من زيارة أمي التي أقعَدَها مرضُ الجسد من ناحية، ومرضُ فقدان الذاكرة الذي أبعدَها عنِّي، حتى أنها لم تعد تقدرُ على خدمة نفسها بنفسها، قلت للرب ودموعي تملأُ عيني: “مكتوب: الله أمين، الذي لا يدعكم تجربون فوق ما تستطيعون، بل سيجعل مع التجربة أيضاً المنفذ، لتستطيعوا أن تحتملوا (1كورنثوس 13:10). أنا ابنتُك يارب، فحاشاك أن تدَعَني أُجرَّب فوقَ ما أستطيع، لكنَّك ستجعلُ مع التجربة أيضاً المنفذ. لذا أرجوكَ يا رب أن تجدَ لي منفذاً لهذه المشكلة، وتأتي لي بامرأة تقدرُ على العناية بأمي.“ وكتبْتُ يومَها في دفتر مذكَّراتي “يا رب، عيناي نحوكَ من أجل تأمين هذه المرأة.” وفي اليوم التالي، وكنت بالطبع عندها قد تركتُ خبراً عند المستشارةِ الاجتماعية في البناء الذي تقطن فيه أمي عن الحاجة الماسة، اتصلتْ بي إحدى السيدات العربيات لتقول بأنَّها علمتْ بحاجتي وهي مستعدة أن تأتي وتخدم والدتي على الرغم من أنَّ لديها العديد من السيدات العجائز اللاتي تقوم بخدمتهن. لم أصدِّق بادئ ذي بدء، ومن كثرة فرحي بكيتُ من جديد. واتفقنا على اللقاء.
ولمَّا أتت لرؤية والدتي قالت لي بالحرف الواحد: أنا أعرف أمَّكِ إذ كنتُ أراها منذ عدة سنوات وهي تتمشى وتزور الجارات.
وما أثارَ استغرابي أكثر هو أن أمي تعرَّفت عليها ورحَّبت بها.
وقفتُ والدهشة تعلو وجهي وقلت للسيدة:
– بالحق، شكراً للرب لأنَّه استجابَ صلاتي وسمع صوتَ تضرُّعي وأتى بكِ إليَّ في الوقت المعين.
وشكرتُ الله وقلت: ”صوتي إلى الله فأصغى إليَّ. في يوم ضيقي التمسْتُ الربَّ… اللَّهمَّ… أيُّ إلهٍ عظيمٌ مثلُ الله. أنت الإله الصانع العجائب (مزمور 77).
قالت لي المرأة: أنا أيضاً مؤمنة بالرب يسوع المسيح، وأحبُّ أن أقومَ بخدمة المحتاجين والمتألمين.
قلت: ما أعظمَكَ يا رب
ولمَّا سكَنْتُ إلى نفسي في عشيّةِ ذلك اليوم عمَّني سلامٌ يفوقُ كلَّ عقلٍ في داخلي، وغمَرني فرحٌ كبير لأنَّ أبي السماوي لم يتخلَّ عني ورحمتَه وجدَتْ لي منفذاً. وفتحتُ كتابي المقدس وقرأتُ: حسنٌ هو الحمد للرب والترنُّم لاسمك أيها العلي. أن يُخبَرَ برحمتك في الغداة وأمانتكَ كل ليلة… لأنك فرَّحتني يا رب بصنائعك. بأعمال يديك أبتهج. ما أعظم أعمالك يا رب وأعمق جدا أفكارك (مزمور 92).
وتعلَّمتُ مرةً أخرى في رحلةِ الحياة الشاقة هذه التي نعيشُها على هذه البسيطة بأيَّامها الحلوة والمرَّة، أن أثقَ بربي القدير “لأنه وحده الصانع العجائب واسمه قدوس ورحمته إلى جيل الأجيال”. وأدركتُ الآن أهميةَ الصلاة التي كانتْ تصلِّيها أمي وجدَّتي قبلَها يوم كنا صغاراً وهي بالعامّية: “يا رب لا تبرِّكني في شيخوختي…” وسلَّمتُ أيامي ولا زلتُ في كل يوم أسلِّم يومي بين يدي القدير، وإلى رحمته الواسعة أستودعُ نفسي، وضمنَ عنايته الفائقة أعيش لحظاتي، فأسمع وعدَهُ يتردد في أذني ليقول: ”لا تهتموا بالغد. لأن الغد يهتم بما لنفسه يكفي اليوم شره.” فليس للكبار يا صديقي إذن سلطانٌ على حياتهم كما كنَّا نظنُّ ونحن صغار، لأنَّ الظروف هي فعلاً أكبرُ من كلِّ كبير وصغير. أمَّا الحكيم الحكيمْ فهو مَن يجعل حياتَهُ كلَّها في يدِ الله القدير الذي وحده يهب الرجاء الأكيد ويزرع الأمل الوطيد، ويمنح الحياةَ معناها الحقيقي.
يا رب ارحمنا وشددنا على كل ضعف فينا