إنكار النفس مبدأ هام في الكتاب المقدس تكلَّم عنه الرب يسوع نفسه. وهو أول الشروط والمواصفات الضرورية لكل مَنْ يريد أن يتبعه ويسير وراءه، ويعيش كما عاش على الأرض ويُفكِّر مثله. فقد قال: «إن أراد أحد أن يأتي ورائي فليُنكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعني» (مت 24:16).
إلا أن الذين يهتمون بإدخال الدراسات النفسية في الأمور الروحية يركزون على الوفاء باحتياجات الإنسان النفسية، وأن المؤمن ينبغي أن يحب نفسه، ويقبل نفسه، ويحقق لها رغباتها. ولقد كثرت وتعاظمت هذه النداءات ووجدت صدى كبير في الأوساط الروحية، حتى أن كثيرين ينادون بأن المؤمن ينبغي أن يكون له نصيبٌ وافرٌ من مصادر السعادة الزمنية مثل: المال، والممتلكات، والمراكز الاجتماعية، والشهرة، ووسائل الرفاهية مع الصحة الجيدة، وأن الروحيات مجالٌ لتحقيق ذاته، باعتبار أنه ابنٌ لله. وهذا ما يُسمَّى إنجيل الثروة والشهرة والصحة. والبعض يعتبر أن هذه طموحات طبيعية ومن الإيمان أن نتمسَّك بها والله لا بد أن يحققها، وإن لم تتحقق فهذا نتيجة عدم الإيمان. إنهم ينادون بمبدأ «ومهما اشتهته عيناي لم أُمسكه عنهما. لم أمنع قلبي من كل فرحٍ» (جا 10:2)
إنكار النفس ومعناه:
إذا كانت العلوم النفسية تنادي بالتمركز حول الذات وإسعادها وتلبية رغباتها، فإن إنكار النفس هو أن المؤمن يرفض أن يعيش لنفسه، وأن تكون لنفسه حقوقٌ عليه. إنه يُعطي ظهره لرغباته الداخلية حتى المشروعة منها، ويخرج خارج دائرة النفس وطلباتها وطموحاتها، وينشغل بغرض آخر يجذب القلب والكيان، ليتشبَّه بسيِّده عندما كان على الأرض. إنه القبول الإرادي للمؤمن أن يكون فقيرًا، آخر الكل، كما قال بولس: «ولا نفسي ثمينة عندي»، خاليًا من أي طموح عالمي إذا كانت هذه مشيئة الرب له. إنه يرفض الدخول في سباق الحصول على أشياء عظيمة في هذا العالم. هو التشبُّه بالسيد الذي قال: «للثعالب أوجرةٌ، ولطيور السماء أوكارٌ، وأما ابن الإنسان فليس له أين يُسند رأسه» (لو 58:9). إنه يقبل أن ينطبق عليه القول: «ليس له» في كل ما هو أرضي، حتى أبسط الأشياء، إنها ليست لغة مسكنة ترجو التعاطف، أو حتى تعبير عن احتياج، لكنها تقرير حقيقة اكتفى واقتنع بها مَنْ قررها. فهل لشباب هذه الأيام هذا الشعار؟
بل أكثر من ذلك فالكتاب يعلِّمنا أن الذي يتبع الرب «يُبغض نفسه» (يو 25:12)، لأنه يرى أن محبته لنفسه تجعله يخدم نفسه، وهو نوع من الأنانية والتمركز حول الذات. وهو يبغض كل ما يعطله عن التمركز حول سيِّده. ليس ذلك فقط، بل هو مستعد أن يُهلك نفسه (مت 25:16)، لأنه يتبع شخصًا رفض أن يريح نفسه وكان لسان حاله «أفنيت قدرتي» (إش 4:49).
العيشة بهذا المبدأ لا بد أن يسبقها امتلاك حقيقي لأشياء حقيقية وليست وهمية، روحية سماوية، وهذا ما يُقدِّمه الله للمؤمن في الكلمة. فالمؤمن يُنكر نفسه لأنه يمتلك فعلاً ما يملأ كيانه، فهو يمتلك المسيح بكل ما فيه من غنى وكرامة ومجد. بينما العلوم النفسية تساعد الشخص على أن يحاول جاهدًا أن يمتلك أشياء، مَنْ امتلك أكبر قدر منها، قال عنها: «ثم التفتُّ أنا إلى كل أعمالي التي عملتها يداي، وإلى التعب الذي تعبته في عمله، فإذا الكل باطلٌ وقبضُ الريح، ولا منفعة تحت الشمس» (جا 11:2).
العلوم النفسية وما تحترمه وتفهمه:
هذه العلوم تدرس احتياجات الإنسان الطبيعي النفسية ورغباته. وتعتبر أن أغلب مشاكل الإنسان سببها عدم الوفاء بهذه الاحتياجات وعدم إشباع رغباته. وتُقدِّم له الحل في الطرق البشرية الطبيعية للوفاء بهذه الاحتياجات، أو تأجيل ما لا يمكن الوفاء به حاليًا للوقت المناسب. كما أنها أحيانًا تدلل رغبات النفس وتعتبرها ضرورات. وهي تطالب الشخص بحقوقه على نفسه، وتحاول أن تعظمها أمام عينيه. بل إنها توضح له أوجه الطموح المختلفة المناسبة له والتي تشبع كيانه، وتساعده على تحقيقها. وهي بذلك تعمق الفراغ النفسي في كيانه، لكنها لا تستطيع أن تملأه.
إنها علوم تجتهد أن تجعل الشخص عظيمًا في عيني نفسه. وتشعره أو توهمه بأنه عظيم في عيون الآخرين، وتدخله في منافسة في سبيل أن يكون عظيمًا.
والكتاب المقدس يُعلِّمنا أن الله يُقدِّر احتياجاتنا الضرورية (وليس رغباتنا الجامحة) ويهتم بها ويوفيها (لو 28:12- 30؛ في19:4).
العلوم النفسية وما لا تفهمه:
من الطبيعي أن يحدث هذا التعارض بين مبادئ وأهداف العلوم النفسية، وبين مبادئ كلمة الله في موضوع إنكار النفس، لأن هذه تبني أبحاثها ودراساتها على مَنْ هو الإنسان وليس مَنْ هو المؤمن. كما أنها تقتصر على دائرة النفس البشرية ولا تفهم في الروح وعملها واحتياجاتها. لذلك هي لا تفهم في تركيب المؤمن وتفاعلاته وأجهزة الاستقبال فيه، ولا تُميِّزه عن الإنسان الطبيعي، مع أن الكتاب يُميِّز بينهما تمامًا. فهذا صنف وذاك صنفٌ آخر (1كو 47:15، 48).
فهي لا تفهم أن الطبيعة القديمة في المؤمن تُحوِّل الاحتياجات الإنسانية الطبيعية الشرعية (حتى الأكل والشرب والحاجة للحب … إلخ) إلى رغبات لا تشبع. «فكل مَنْ يشرب من هذا الماء يعطش أيضًا» (يو13:4). وأن المؤمن قد مات مع المسيح وبالتالي لا يتجاوب مع رغبات الطبيعة. كما أن احتياجاته الضرورية النفسية تُسدَّد بطريقة روحية مختلفة عن غير المؤمن.
إن أكثر ما تنادي به هذه العلوم، وهو أن الشخص يحب نفسه، هو بذاته أكثر ما يدينه الكتاب ويعتبره أسوأ صفات الناس في الأيام الأخيرة إذ يكونون «مُحبِّين لأنفسهم .. مُتعظِّمين …» (2تي 1:3). وبالتالي لا تقبل أن المؤمن يتخلَّى تمامًا عن رغباته ولا تكون لنفسه حقوقٌ عليه، فهي لا تفهم ما قاله النبي: «يا رب، لم يرتفع قلبي، ولم تستعل عيناي، ولم أسلك في عظائم، ولا في عجائب فوقي، بل هدَّأتُ وسكَّتُ نفسي كفطيم نحو أُمِّه. نفسي نحوي كفطيمٍ» (مز 1:131، 2).
فهذه الثقافة الكتابية عكس ثقافة علم النفس
ولأن هذه العلوم هي نتاج فكر الإنسان الطبيعي، و«الإنسان الطبيعي لا يقبل ما لروح الله لأن عنده جهالةٌ، ولا يقدر أن يعرفه لأنه إنما يُحْكَم فيه روحيًا» (1كو 14:2)، لذلك هي لا تفهم ولا تقبل الفكر الروحي بالنسبة للمؤمن، أنه بالإضافة لكونه إنسانًا، لكنه ليس مجرد إنسان عادي بل يمتلك طبيعة جديدة، هي طبيعة الله نفسه (2بط 4:1) تجعل تفكيره وتفاعلاته مختلفة عن غير المؤمن. وبالتالي ما هو مرفوض من الطبيعة القديمة، مثل إنكار النفس (والذي يرفضه علماء النفس ويعتبرونه نوعًا من الخنوع والاستسلام لأنهم يجتهدون لإشباع رغبات النفس)، هو نفسه غذاء الطبيعة الجديدة وأقصى أمانيها.
إنكار النفس ونتائجه:
مبادئ علم النفس تتمنى أن تصل بالإنسان إلى أن يقول لنفسه: «لك خيرات كثيرة موضوعة لسنين كثيرة، استريحي وكُلي واشربي وافرحي» (لو 19:12). أما إنكار النفس فيقود إلى الشعار: «ينبغي أن ذلك يزيد وأني أنا أنقص» (يو 30:3).
إنكار النفس هو التعبير العملي عن حالة أدبية داخلية فيها يتعلَّم المؤمن من الذي قال: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب» (مت 29:11).
هو مبدأ الراحة والاستقرار والهدوء الداخلي، لأن الذي يعيش به لا يخاف أن يخسر شيئًا، فهو يدرك أنه ليس له شيء لكي يخسره، «فتجدوا راحة لنفوسكم».
المؤمن الذي ينكر نفسه أكثر سعادة بما لا يُقاس من الذي يطلب ما لنفسه. فعنده كم كبير من القناعة والاكتفاء الناشئ من إدراك الغنى الحقيقي. بينما العلوم النفسية تجعل الشخص يطلب ما لنفسه وتساعده على تحقيق ما يظن أنه لنفسه فتجعله أقل سعادة ودائمًا أكثر احتياجًا.
كما أن إنكار النفس يُقدِّم وسيلة علاجية فعَّالة للمؤمن عندما تجتاحه آلامٌ نفسية. فالمتألم لأنه مظلوم وحقُّه مهضومٌ، أو أن طموحه لم يتحقَّق، ولا يجد فرصة لتحقيق ذاته، … إلخ، كلٌ منهم نفسه من الداخل تطالب، والعلوم النفسية تساعده لكي يأخذ، وتُقدِّم له نظريات نفسية للإزاحة والتبرير والإيحاء، ربما قادرة على التخفيف المؤقت عنه، لكنها ليست قادرة مطلقًا على العلاج. أما إنكار النفس، فيجعله يتحوَّل تمامًا عن المصادر البشرية إلى ينبوع آخر لا يستطيع العالم أن يمنحه، له التأثير الأكثر عمقًا في الروح والنفس وهو مضمون النتيجة، «ليس كما يعطي العالم أُعطيكم أنا» (يو 27:14). أما في علاقاته بالآخرين فسوف يستبدل الأخذ بالعطاء ويتعلَّم أنه «مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ» (أع 35:20).
وأخيرًا أرجو أن يكون راسخًا في كيان كل مؤمن، لا سيما إخوتي الشباب، أن تعقيدات الحياة مهما تزايدت لا تجعل الكتاب غير كاف أو أقل نفعًا لسد أعواز النفس البشرية بل سيظل كافيًا وحيًا ونافعًا على مر العصور (عب 12:4، 13). ولا هو الكتاب القديم العاجز عن ملاحقة تطورات العصر، فنلجأ إلى غيره من المصادر أو نكمله بدراسات نفسية، بل إن كل هذا يجعل الاحتياج إليه أكثر والمجهود الذي يبذل في البحث فيه أجدى من كل عمل آخر.