لست تفهم الآن

 نخطئ عندما نظن أن الألم يتوقف على ما نتعرض له من مواقف صعبة، أو ضغوط متنوعة؛ فهذا في الواقع هو أولى درجات الألم؛ فالألم في عمقه وصعوبته عندما تهاجمنا موجات متلاحقة من التساؤلات والحيرة، ولا نجد أية إجابات مريحة عنها!  ولنا في كلمة الله أمثلة لأناس تألّموا لأسباب متنوّعة، وما زاد من ألمهم هو ما تولَّد عندهم من تساؤلات وحيرة، لكنهم وجدوا عزاءَهم وسلامهم في ذلك الإله الصالح.  ربما إنهم لم يجدوا إجابات واضحة لكل تساؤلاتهم وحيرتهم، لكن ثقتهم في حكمة الله وصلاحه، بعثت في قلوبهم الهدوء والطمأنينة.  ولنستعرض بعض هذه المواقف:

أولاً: مفاجآت صادمة: الشونمية وموت ابنها

كانت الشونمية – رغم جرحها الدفين من عدم إنجابها – “امرأة عظيمة” من جوانب متعدِّدة.  وكم تبدَّل الحال معها تمامًا بعد وعد رجل الله أليشع لها بأنه سيكون لها ابن!  أ ليس من علامات رضا الرب أن تنجب بنين؟  أ ليس أمرًا مبهجًا ومُسرًّا للنفس أن تحتضن أخيرًا ابنًا تبثّه مشاعرها وعواطفها، التي كانت مكتومة فيها طوال سنوات الحرمان هذه؟  كم أدخل هذا الابن السرور والبهجة في أرجاء بيتها.  ما أروع أن تراه ينمو ويترعرع، وها قد كَبر وصار غلامًا، وخرج مع أبيه إلى الحقل.  لكن فجأة وبلا مقدمات، إذ به ميت في حضنها!!

ماذا؟  وكيف؟  ولماذا؟!  بل يمكن أن نتخيلها تتساءل: إنني لم أطلب ابنًا، ولا شكوت من حرماني من البنين.  لقد كانت مبادرة كاملة من رجل الله أليشع.  ولقد أمَّن الرب على هذا الوعد، وأُعطيت الابن.  هل ليكون سبب بهجة لي أم سبب حزن مذيب؟!  هل الله يعاقبني على خطإٍ اقترفته وأنا لا أعلم؟  إن كان يريد الله أن يأخذه مني، فلماذا أعطاه لي.  أيمكن أن لا يبالي الله بمشاعري وأحاسيسي إلى هذه الدرجة؟

 إنها لم تسأل هذه الأسئلة.  ويا للعظمة الروحية والأدبية!!  كيف استطاعت أن تتحكم في مشاعرها بهذه الكيفية العجيبة؟!  كيف لم يخرج من فمها كلمة تذمر أو احتجاج، أو حتى أنين، بل على العكس لم يخرج من فمها سوى كلمة “سلام”؟  لا شك كان لها إيمان راسخ بالرب، وإنها ستستعيد ابنها (عب11: 35)، لكن هل موت ابنها أمام عينيها أمر بسيط وطبيعي؟  أ يُخطف ابنها من بين يديها في لحظة ولا تعتبره كارثة بكل معنى الكلمة؟  إن ما نراه في هذه المرأة العظيمة إنما يُعبِّر عن حالة نفس تثق بلا حدود في صلاح الله، حتى وإن لم يكن عندها تفسير واضح لما تجتاز فيه من محنة قاسية ومذيبة.  إنها تعرف الله، ولها شركة حقيقية معه لذلك لا نجدها ترتبك أو تكتئب، لقد كانت تتمتع فعليًّا بما لاحقًا منحه الرب لنا «سَلاَمِي أُعْطِيكُمْ» (يو14: 27)، فاستطاعت أن تُظهر هذا السلام عند محنتها!!

ثانيًا: كوارث متلاحقة: أيوب وتجاربه

 أن يُصاب المرء بكارثة، أمر مؤلم.  وأن تتلاحق عليه الكوارث، أمر أكثر إيلامًا.  وأن تلحق الكوارث ليس فقط بجزء من ممتلكاته، بل بكل ممتلكاته، أمر يزيد الألم ألمًا.  أن تمتد الكوارث لتصيب ليس فقط كل الممتلكات، بل الأبناء، أمر يجعل الألم أعنف وأقسى.  أن تعصف الكوارث ليس فقط ببعض الأبناء، بل بكل الأبناء، أمر يجعل الألم محرقًا.  أن يُضرب هو نفسه بقُرح رديء من باطن قدمه إلى هامته، أمر يجعل الألم مضاعفًا.  أن تكون أقرب الناس إليه؛ شريكة حياته، والتي رتبها الله أن تكون معينة نظيره، تدفعه لأن يُجدف على الرب (أي2: 9)، أمر يزيد الألم لدرجة لا نستطيع تصوّره.  لكن هذا حقًّا ما حدث لأيوب.  وكم نتعجب كثيرًا من رد فعله وإجابته الرائعة لزوجته: «أَ الْخَيْرَ نَقْبَلُ مِنْ عِنْدِ اللهِ، وَالشَّرَّ لاَ نَقْبَلُ؟» (أي2: 11).  نعم إن موقف أيوب يثير العجب والاندهاش!

ولكن بعد كل ما اجتاز فيه أيوب، كانت هناك جرعة ألم ما زال عليه أن يتجرعها من أصحابه الثلاثة بكلامهم القاسي، واتهامهم له بأنه حتمًا قد أخطأ في حق الله، وأن الله القدوس والعادل يقتصّ منه بأقل مما يستحق.  ومع أنه لم يكن يعلم كيف ستنتهي به الأمور، لكنه استطاع، رغم شدة حيرته، وكلمات أصحابه القاسية، أن ينطق بما في قلبه تجاه الرب: «هُوَذَا يَقْتُلُنِي.  لاَ أَنْتَظِرُ شَيْئًا.  فَقَطْ أُزَكِّي طَرِيقِي قُدَّامَهُ» (أي13: 15)!  وما نجح فيه أيوب أنه لم تتغير نظرته للرب، وتمسَّك بالرب حتى النهاية، وإن لم يستطع أن يُفسِّر لأصحابه ماذا يحدث معه.

 ثالثًا: لماذا أنا بالذات؟  إرميا ورفضه

لقد حظي بإعداد وتجهيز إلهي خاص، لقد تعيَّن من الرب نبيًّا من بكور حياته، وهو ما زال صبيًّا صغيرًا، وعندما تردَّد في قبول دعوة الرب لكونه لا يعرف أن يتكلم لأنه ولد، جاءه تشجيع قوي من الرب: «لاَ تَقُلْ إِنِّي وَلَدٌ…  لاَ تَخَفْ…  أَنَا مَعَكَ» (إر1: 7، 8).  وأتخيل إرميا الشاب الغضّ بدأ خدمته بحماسة كبيرة، ومشاعر متأججة، وتوقعات رائعة، ولِِمَ لا؟  أَ لم يُرِه الرب قضيب لوز، مؤكدًا له أنه ساهر على كلمته ليجريها، وإن كان سيذهب للشعب برسالة تحذير وقضاء، أليس ليجنِّبهم ويلات كثيرة ستنصب عليهم إن لم يسمعوا لأقوال الرب على فمه؟  فحتمًا سيصغون له وسيرحبون به وسيستجيبون لرسالته، إنه يُحب شعبه، وبالتأكيد سيلاقي صدى لمحبّته.

وإذ بنبينا يُفاجَأ بجفاء وصدود، ويتعرض لسلسلة من الاضطهادات العنيفة، والعداء من الكل: عائلته وأهل بلده (11: 18-23)، الشعب (18: 18، 19)، فشحور بن إمِّير الكاهن (20: 1، 2)، الكهنة والأنبياء (26: 8، 9)، وأخيرًا الرؤساء (37: 11-16؛ 38: 1-4).

 وأمام عنف وقسوة ما تعرَّض له، اكتنف إرميا كثير من الحيرة والارتباك.  وتزاحمت الأسئلة في ذهنه: أ لم يرسله الرب؟  أوَ لم يشجِّعه ليذهب إلى الشعب؟  أكان الرب يقصد له كل هذا الهوان والمذلة؟  ثم لماذا أنا بالذات الذي يحدث معي كل هذا؟  لقد شعر أنه يجتاز فيما لم يجتز فيه أحد من قبل، وأن الرب جعله هدفًا له، فانهالت عليه كل أنواع المصائب والمتاعب، ولقد عبَّر عن هذا في مراثيه بالقول: «أنا هو الرجل الذي رأى مذلَّة بقضيب سخطه» (مرا3: 1-18).

لكن عندما تحوَّل عن نفسه، وكفَّ عن رثائها، وتأمَّل صلاح الرب يقول: «أُرَدِّدُ هَذَا فِي قَلْبِي مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَرْجُو».  لقد ردَّد في قلبه أمرين عن الرب يُعبِّران عن صلاحه غير المحدود والذي لا يتغيَّر على الإطلاق، وهما: “إحسانات الرب، ومراحم الرب”.  فرأى في إحسانات الرب كم الخيرات والبركات التي تغمره دون استحقاق فيه، ورأى في مراحم الرب كيف أنه لم يُعامله بما يستحق.  وإذ أدرك أن ما يناله من الرب من إحسان ومراحم يطغي على ما يتحمله من اضطهاد وضيق، نسمعه يقول: «طَيِّبٌ هُوَ الرَّبُّ لِلَّذِينَ يَتَرَجُّونَهُ لِلنَّفْسِ الَّتِي تَطْلُبُهُ.  جَيِّدٌ أَنْ يَنْتَظِرَ الإِنْسَانُ وَيَتَوَقَّعَ بِسُكُوتٍ خَلاَصَ الرَّبِّ» (رجاء قراءة مراثي 3: 1-38).

رابعًا: طلبة بإلحاح لا تُستجاب!  بولس وشوكته

رسول مميَّز، صاحبت قصة تغيُّره ظهورًا خاصًا من الرب له، وكان يكرز ليس فقط بإنجيل الله، بل أيضًا بإنجيل مجد الله (1تي1: 11).  كما حظي بأنه اختُطف إلى السماء الثالثة؛ إلى الفردوس، حيث سمع كلمات لا يُنطق بها، ولا يسوغ لإنسان أن يتكلم بها (2كو12: 4).  ولقد أفرد له سفر الأعمال تفاصيل رحلاته التبشيرية الثلاث، والتي فيها نشر المسيحية في أرجاء المسكونة، وإن كان في سبيل ذلك تكبَّد مشاقًا لم يتعرَّض أحد من الرسل لمثلها (2كو11: 23-27).  كما تميز كإناء للوحي بأن كتب هو وحده 14 رسالة!

نعم لقد كان حقًّا: «إناء مختار» (أع9: 15)، ولكنه كان يُعاني من شوكة في الجسد!  والعبرة ليس في طبيعة الشوكة، بل كونها أمرًا يُزعج الرسول، لدرجة أنه طلب من الرب ثلاث مرَّات أن يُخلّصه منها.

أيمكن أن يسمح الرب لرسول مثل هذا بشوكة؟!  أليست خدمته ستكون أكثر قوة وفاعلية بدون هذه الشوكة؟  أليس صحته الجيدة تكون مُصَادَقة من الرب لخدمته؟  أ لم يَشفِ هو نفسه أناسًا كثيرين، فكيف لم يستطع أن يشفي نفسه؟  ثمَّ لقد طلب من الرب بالتحديد أن يرفع عنه هذه الشوكة، أ لم يَعِدَ الرب بالاستجابة لمن يطلبه (مت7: 7)؟  هل الرب لا يبالي بطِلبة رسوله المُلِحة والتي طلبها ثلاث مرَّات؟  بل إنَّ حيرَتِنَا تزداد عندما تأتي إجابة من الرب غير متوقعة، مفادها: إنه لن يرفع الشوكة!!  وإن أعطاه وعدًا عجيبًا: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي، لأَنَّ قُوَّتِي فِي الضُّعْفِ تُكْمَلُ».

 وكم نُبهر ونُعجب برد فعل رسولنا المغبوط، إذ نسمعه يقول بعد ذلك مباشرة: «فَبِكُلِّ سُرُورٍ أَفْتَخِرُ بِالْحَرِيِّ فِي ضَعَفَاتِي، لِكَيْ تَحِلَّ عَلَيَّ قُوَّةُ الْمَسِيحِ»، وإذ يُدرك أبعاد وقوة كلمات الرب يستطرد قائلاً: «لِذَلِكَ أُسَرُّ بِالضَّعَفَاتِ وَالشَّتَائِمِ وَالضَّرُورَاتِ وَالاِضْطِهَادَاتِ وَالضِّيقَاتِ لأَجْلِ الْمَسِيحِ.  لأَنِّي حِينَمَا أَنَا ضَعِيفٌ فَحِينَئِذٍ أَنَا قَوِيٌّ» (2كو12: 1-10).  إن الرسول الذي كان منزعجًا من الشوكة، نجده يرحب بالمزيد من الضعفات والضرورات والضيقات وغيرها؟!  كيف حدث ذلك؟  وكيف انتفى كل تساؤل وحيرة؟  بل كيف صار هناك ترحيب بمزيد من المتاعب والمصاعب؟  الإجابة هي كلمات الرب اليقينية: «تَكْفِيكَ نِعْمَتِي».  نعم، في نعمة الرب الكفاية والتعويض عن كل ما نتعرَّض له.

 خامسًا: أحداث غير متوقعة: يوسف ومآسيه

نشأ متميزًا محبوبًا من أبيه، ومفضَلاً على إخوته، وها الرب يؤكِّد هذا الأمر، لقد جعله الرب يحلم حلمين يؤكدان على تميُّزه الواضح ليس على إخوته فحسب بل حتى على أبيه!  لكن كم نندهش من مجريات الأمور بعد ذلك، فقميصه الملون خُلع عنه، وطُرح في جب، وإخوته بدلاً أن يُظهروا احترامًا وتقديرًا له سمعوه يبكي ويسترحمهم فلم يبالوا به، وإذ به يجد نفسه يُباع عبدًا لقافلة من الإسماعيليين، والذين بدورهم باعوه لرئيس الشرط في مصر!  وعندما رضي بواقعه، وعمل باجتهاد وأمانة في بيت فوطيفار، إذ بامرأته الماجنة والشريرة تتعرَّض له، وعندما رفض أن يتجاوب معها، اتهمته جورًا عند زوجها، والذي طرحه في السجن!!

 كيف تسير الأمور هكذا؟  إن كل ما يحدث معه عكس المتوقع تمامًا؟!  أين أحلامه؟  إنه ليس فقط لم يُبصر أحلامه تتحقق، بل لم يعش حتى حياة عادية كباقي البشر، إذ صارت حياته سلسلة من المآسي.

لكن هل ارتبك يوسف وتحيَّر؟  هل شك في صدق أحلامه وما تعنيه؟  هل فقد ثقته في الرب؟  هل انهارت آماله وباد رجاؤه؟  الإجابة لا، لم يرتبك يوسف ولم ينزعج رغم كل الأحداث المعاكسة لتوقعاته، حتى إنه ذات يومٍ وهو في السجن، رأى ساقي الملك وخبازه مغتمين، وأعلماه أنهما حلما حلمين، ولا يعرفان تفسيرهما، فلم يقل لهما: ما قيمة الأحلام؟  لقد سبق وحلمت لا حلمًا واحدًا بل حلمين، وكان تفسيرهما واضحًا، ولكن لم يتحقق شيء منهما، وها قد أمسيت عبدًا في السجن!  إنه لم يقل ذلك ولم يشُك في أنه لا بد سيأتي الوقت الذي فيه يتحقق الحلمان، ولذلك نسمعه يقول لهما: «أليس لله التعبير.  قُصَّا عليَّ» (تك40: 8)!!  أَمَا زلت يا يوسف تثق في الله ووعوده لك؟  أ بعد كل ما حدث معك ما زلت تثق في أن الله يتكلم إلينا من خلال الأحلام؟  نعم، وكأننا نسمعه يردد: «ليس الله إنسانًا فيكذب، أو ابن إنسان فيندم!  هل يقول ولا يفعل؟  أو يتكلم ولا يفي؟» (عد23: 19).  ليتنا يكون لنا ذات ثقة يوسف، فندرك يقينًا أن «هبات الله ودعوته هي بلا ندامة» (رو11: 29).

 أخي الحبيب، عندما تتعرض لمفاجآت صادمة، أو كوارث متلاحقة، أو تشعر أن نصيبك من الألم أكبر من غيرك، وأن طلباتك المُلحة والتي تطلبها بلجاجة لا تُستجاب، وأنه يحدث معك بعكس ما تتوقع؛ ثِق في الله وصلاحه، وأنه حكيم في كل أفعاله، وأنه لا يكف لحظة عن محبته لك.

 

الاخ عاطف ابراهيم

 

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *