كيف غفر لقاتل أمه؟

الاخ انور داود

طالعتنا وسائل الإعلام بخبر مؤثر وهو مقتل والدة القس سمير وليم بالفكرية محافظة المنيا، وكيف قُبض على القاتل واعترف بجريمته النكراء ولكن المؤثر في الخبر والذي جعل وسائل الإعلام تتكلم عنه بكثرة هو غفرانه لقاتل أمه، وإعلان هذا الغفران للقاتل في مقابلة مسجلة بالصوت والصورة مع القاتل في إحدى القنوات التليفزيونية.  وفي هذا المقال لا أتناول قصة غفرانه، وهو خادم للرب، لمن أساء إليه إساءة بالغة، لأنه ربما يظن البعض أن الخدام ليسو من طبقة البشر، وينسون أن الخدام هم أيضًا بشر، لهم الطبيعة البشرية التي عندما يسمح لها المجال تثور وتغضب وقد تنتقم،  فلهذا أكتب عنه كشخص عادي له علاقة بالرب، إنسان مثلنا تحت الآلم كيف غفر؟ وبأية طاقة غفر؟ وهل هذا ممكن؟

هذه القصة ذكرتني بقصة تدور أحداثها في إحدى ساحات محكمة بجنوب أفريقيا.  كانت هناك سيدة سوداء ضعيفة البنية في السبعين من عمرها تكاد تقف بصعوبة على قدميها، ويقف في مواجهتها عبر القاعة مجموعة من ضباط الشرطة البيض، وكان بينهم السيد “فاندر بروك” الذي تم التحقيق معه ووُجد ضالعًا في حادثتي قتل لكل من ابن هذه السيدة وزوجها منذ بضع سنوات.  لقد حضر “فاندر بروك” إلى منزل هذه السيدة وأخذ ابنها وأطلق عليه الرصاص ثم أشعل النيران في جثته بينما كان يحتفل مع ضباطه على مقربة من المشهد.  ثم بعد سنوات عاد هو ورجاله ليختطفوا زوجها، وظلت شهورًا لا تعرف عنه شيئًا.  وبعد سنتين من اختفاء زوجها عاد “فاندر بروك” طالبًا المرأة نفسها، وهي تذكر جيدًا ذلك المساء الذي أخذوها فيه إلى مكان بجوار النهر حيث رأت زوجها مقيدًا ومضروبًا، لكنه كان قويًا في الروح، مطروحًا على كومة من الخشب، وبينما كان الضباط يصبُّون عليه الكيروسين ويشعلونه بالنار كانت آخر كلمات سمعتها من شفتيه هي: “يا رب، اغفر لهم”.  وها هي المرأة الآن في ساحة المحكمة تستمع إلى اعترافات السيد “فاندر بروك”، التفت إليها عضو لجنة جنوب أفريقيا للحق والتسوية وسألها: “الآن ماذا تريدين؟ كيف تنال العدالة من هذا الرجل الذي دمر عائلتك بكل وحشية؟” ردت المرأة بهدوء وثقة: “أريد ثلاثة أشياء … أولاً: أن أذهب حيث تم حرق زوجي حتى أجمع رماد زوجي وأدفنه دفنة لائقة به، ثانيًا: أريد من السيد “بروك” أن يصير ابني، يا ليته يحضر مرتين شهريًا إليّ ويقضي معي يومًا لأتمكن من سكب ما تبقى لديّ من حب على شخصه!!” ثم طَلَبَت الأمر الثالث: “… وهذه كانت أمنية زوجي، لذلك أتوسل إلى أي منكم ليصحبني عبر هذه القاعة حتى السيد “بروك” لأضمه بين ذراعيَّ وأقبِّله وأدَعهُ يعرف أنه بالحقيقة مغفور له.  وبينما كان أحد المساعدين يصحبها إذا بالسيد “بروك”، الذي غمره ما سمعه لتوه، يقع مغشيًا عليه! وإذ ذاك كان كلُّ مَنْ بالقاعة: الأصدقاء والجيران والعائلة وكل ضحايا عشرات السنين من القهر والظلم، قد بدأوا يرنمون بصوت رقيق مفعم بالثقة:

ما أجملها نعمة مدهشة     قد خلَّصت يائسًا مثلي

برغم ما يبدو من أن السيدة العجوز التي تحملت كل هذه الآلام والفراق، قد أسدت معروفًا جبارًا للسيد “بروك” – مع أنها بالفعل كذلك – إلا أنها في الواقع فعلت ما هو أكثر لنفسها.  وبفعلها هذا لم يعد لماضيها أية سلطة على مستقبلها، ولم تسمح لألم الماضي أن يسمِّم حياتها.  لقد أعطى موقفها هذا مجدًا لله، فالله لا يتمجَّد بمعاناتنا، بل بالموقف الذي نتخذه أثناء المعاناة.  لقد اتخذَتْ قرارًا صحيحًا بينما كانت وما زالت متألمة، وقد ساهم هذا القرار في وضع نهاية لألمها.

طالما ظل الغضب يُسيطر علينا، سنظل محتفظين بآلامنا، لكن عندما نشرع في الصلاة من أجل أولئك الذين جرحونا، يُبْتَلَع الألم في المحبة!

في الواقع أصبحت الحاجة ماسَّة لأخذ كلمات الرب يسوع محمل الجد «اغفروا يُغفر لكم» (لو6: 37).  لأنه لا يوجد شخص إلا وتعرض بصورة أو بأخرى لتجريح الآخرين أو إهاناتهم بالكلمات أو التصرفات أو المواقف سواء كانت مقصودة أو غير مقصودة.  وكم يكون الجرح غائرًا عندما تأتي الإساءة من شخص قريب منا ونتمتع معه بعلاقة طيبة ونتوقع منه الخير والمودة، «الجروح… التي جُرحت بها في بيت أحبائي» (زك13: 6)!  قد يكون هذا الشخص هو أحد الوالدين أو شريك الحياة أو رئيس في العمل أو صديق أو قريب أو أحد المؤمنين بالكنيسة التي أنتمي إليها، فعادة نحن لا نُجرَح من أشخاص لا نعرفهم ومَنْ ليست لنا شركة معهم، كالذين نراهم في الأماكن العامة مثلاً، بل نُجرَح من القريبين منا.

والجروح يُعاني منها الجميع؛ مؤمنين كانوا أو خطاة.  فقد نسمع من الأشرار عبارات تنم عن آلامهم، فيتحدثون عن الظلم الواقع عليهم ويشتكون مما يفعله معهم الآخرون والأذى الذي لحق بهم، ويرددون كيف أنهم ضحايا أبرياء، أساء الآخرون معاملتهم وجرحوا مشاعرهم؛ لكن رد فعل المؤمن يختلف عن غير المؤمن في مثل هذه المواقف، بل إن ردّ الفعل يختلف أيضًا من مؤمن لآخر حسب قامته الروحية وتعمقه في فهم كلمة الله التي تكلَّمت كثيرًا في هذا الموضوع العملي، ورسمت لنا العلاج في كيفية تقديم الغفران للآخرين.

ألا نتفق جميعًا أن الغفران رائع عندما نحصل عليه من الآخرين لكنه أروع عندما نقدمه نحن بدورنا لهم، فنرحم أنفسنا من مرارة عدم الغفران ومن تصدع العلاقات وتفاقم المشاكل.  فكم من كنائس توترت العلاقة بين المؤمنين فيها لأنهم لم يسلكوا المسلك الصحيح وقت الاختلاف، ولأنها أجواء نقية فلسبب الحساسية الشديدة كم تكون الجروح غائرة!

وكم من بيوت خربت وعائلات تحطَّمت وتفرَّقت لسبب موقف لم يُسَوَّ ولم يُعاتَب فيه المُخطئ لهذا لم يُمارَس الغفران الصحيح، وكم من مقاطعات ومخاصمات بين أُناس كان يجب أن تكون بينهم العلاقة حميمة مثمرة!

عزيزي

هل أنت واحد مِمَنْ تأذَّوا في مشاعرهم، أو ربما في جسدهم، على أيدي الآخرين؟

هل دخلت إلى قلبك وعقلك مشاعر الغضب أو الغيظ أو الكراهية أو العداوة أو المرارة والرغبة في الانتقام؟

هل امتلأَت نفسُك بروح عدم المغفرة؟

إن عدم المغفرة حينما يُعشِّش داخلك يمكن أن يتحوَّل إلى لصّ مُختَفٍ،  يجعلك سجينًا داخل نفسك.  وهو لن يؤذيَ الشخص الذي أخطأ في حقك، فهو سيمضي إلى حال سبيله، أما أنت فستظل ممسوكًا، ومقيدًا بما تَمَلَّك على أفكارك وقلبك وتصرفاتك وكلامك.  إنه سينخر داخلك مثل سرطان مُدمِّر، وإذ بك تكتشف أنك مربوط بالعداوة، وقد فارقك السلام الداخلي؛ ولكن حالما تعزم على المغفرة، في لحظة إشراق نعمة المسيح الغافر داخل قلبك، فإنك تحس في الحال بآثار المغفرة.

وقد تحاول أن تغفر مدفوعًا بمشاعر بشرية شخصية بحتة، فلن يكون وراء ذلك طائل؛ فنعمة المسيح هي وحدها القادرة على أن تُدِخل إلى قلبك روح المغفرة وبها تنال الحرية والنصرة على مشاعر عدم الغفران.

ما أصعب الغفران على الطبيعة البشرية التي تجد في الانتقام والتشفِّي لذَّة! لهذا عندما تكلَّم الرب مع تلاميذه عن الغفران قالوا له: «زد إيماننا» (لو17: 5).

ليت الرب يصل بنا إلى قناعة بأن هذا الأمر أكبر من أن نفعله بأنفسنا، لكن عندما نطلب معونته ونتضع أمامه تمتلئ قلوبنا بغفرانه، فيقدِّم من خلالنا، وبسهولة، الغفران كما قدَّمه سابقًا لصالبيه.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *