قد ذكرت لك






في ضعفنا قد ننسى رصيد صلاح الله معنا ونحتاج باستمرار أن نقول مع داود: “باركي يا نفسي الرب ولا تنسي كل حسناته” (مز103: 1)، لكن العجيب أن الرب أيضًا لديه رصيد من الذكريات بالنسبة لكل واحد من أولاده! وذلك لأنه يذكرنا كل حين “على كفيّ نقشتك وأسوارك أمامي دائمًا” (إشعياء 49: 16) ويضعنا في عينيه (مز17: 8).  كوننا نقول للرب “بأفتكر لك كل خير” هذا منطقي وطبيعي، لكن العجيب أن الرب يقول لنا “بأفتكر لكم كل خير”، رغم أننا مملوئون عيوب وهذا بشهادتنا على أنفسنا لا بشهادة آخرين عنا.

فهيا بنا نطلع على ذاكرة الله لنعرف ما هو مخزون فيها من نحونا من خلال هذه الشواهد : إرميا2: 1-2 ؛ ملاخي 3: 16؛ متى 26: 12

الموقف الأول: إرميا ص2

كانت حالة الشعب في الانحطاط الروحي.  فلكي يؤثر فيهم الرب يذكر لهم الذكريات الجميلة التي كانت بينه وبينهم.  فقال لهم: “قد ذكرت لك غيرة صباك”.  أيام خروجكم من أرض مصر، أيام انتفاضكم من معاجن الطين ومن أوثان مصر.  فما زال صوت ترانيمكم على شاطي البحر الأحمر يرن في أذني “الفرس وراكبه طرحهما في البحر”.  ولنا نحن أيضًا يقول: “فما زلتُ أذكر معجزات التغيير التي حدثت معكم وفيكم، يوم شهد كل المقربين لكم أن “الأشياء العتيقة قد مضت هوذا الكل قد صار جديدًا” (2كو5: 17 ).  يوم كنتم غيورين على الحق وعلى ربح النفوس وعلى الكلمة وعلى اسمي فكم كانت الحماسة تملاكم والحرارة الروحية طابعكم، يوم كنتم حارين في الروح، عابدين الرب، يوم كنتم تطيلون الجلوس أمامي بالساعات، يوم كنتم تطيلون الجلوس أمام الكتاب المقدس للقراءة أو للدراسة بالساعات”.  الطبيعي أن الرب لم يتغير، بل نحن مَنْ تغيرنا، لكنه لكي يؤكد لنا قبوله لرجوعنا يقول لنا هذه العبارات للتوضيح قد نشبهها بشخص جرح لسبب موقف حدث له من شخص عزيز عليه فيقول له مش أنت ده يا فلان اللى أنا اعرفه..

ذكرت لك محبتك خطبتك: يوم أن أحببتموني من كل القلب ومن كل النفس ومن كل الفكر ومن كل القدرة.  ليس لأن هناك من أوصاكم بأنكم تحبونني لكن باختياركم أحببتموني وكم يفرق مع الرب أن نحبه دون أي تحريض على المحبة وأن نخافه دون أي تحريض على المخافة.  فكان عتاب الرب للشعب  أن مخافتهم له هي وصية الناس معلمة (إشعياء 29 : 13 ).

ذكرت لك ذهابك ورائي في البرية: حيث ليس ماء، حيث الآبار المشققة التي  لا تضبط ماء. حين صار العالم بالنسبة لكم برية.  يوم أن صُلب العالم لكم وأنتم للعالم. يوم أن دستم وبعز على كل أمجاد العالم وممتلكاته.  يوم أن ألقيتم ذهب أوفير بين حصى الأودية.

وكم يشهد التاريخ عن أشخاص لأجل عمل الرب ضحوا بمراكز وترقيات وفرص كسب مادي لأجل إكرام الرب لكي لا يُحرموا من الاجتماعات الروحية أو المشاركة في خدمة الرب.

إن الرب “فتيلة خامدة لا يطفئ وقصبة مرضوضة لا يقصف”.  فكان يرى في الفتيلة الخامدة شعلة منتشلة من النار وكان يرى في القصبة المرضوضة العصا التي تشق البحر وتصبح لا عصا الإنسان الضعيفة بل عصا الرب المعتزة بالقدرة.

الموقف الثاني:

“حينئذ كلم متقو الرب كل واحد قريبه الرب أصغى وسمع وكُتب أمامه سفر تذكرة” (ملاخي3: 16).

عندما يتكلم متقو الرب، بكل تأكيد سيكون الرب الذي يتقونه ويخافونه يهابونه والذي يملأ حياتهم موضوع حديثهم.  سيتكلمون عن عمله، عن قطيعه وخدمته وكلمته والرب سيكون حاضرًا معهم يسمعهم ويصغي إلى ما يقولونه ويأمر بأن يُكتب ما يقولونه في سفر تذكرة في الذاكرة الإلهية.

ففي ذاكرة الله يُسجّل صلوات المؤمن.  فإن كانت مجرد أحاديث الأتقياء يُسجلها، فكم وكم صلواتهم وأعمالهم وحتى كأس ماء بارد لا يضيع أجره وهذا يوضح فما لا نعتبره نحن تضحية لأجل الرب يعتبره لنا الرب تضحية.

في ذاكرة الله تنطبع صلواتنا ولجاجتنا وصراخنا.  فبعد رحيل كل من موسى وصموئيل بمئات السنين – وهم رجال صلاة – أراد الله أن يُذكر الشعب بهم ففي إرميا 15 : 1 قائلاً: “وإن وقف موسى وصموئيل أمامي لا تكون عيني نحو هذا الشعب”.  فكأنه يقول إنهم لم يبرحا من ذاكرتي ولا يمكن أن أنسى أبدًا صلاة هذين الرجلين العظمين، لا أنسى مهما طال الزمان الوقفات الجميلة والأوقات الطيبة التي كانت لموسى وصموئيل أمامي.

سيأتي يوم فيه  يذكر الرب لنا الأوقات الجميلة.  وقت كنا نصلى فيه.  فكم يحمل كل قارئ من ذكريات جميلة بينه وبين الرب واختبارات حلوة ليس نحن فقط من يتذكرها، بل يذكرها لنا الرب وهذ يؤكد أن صلوات المؤمنين تظل محفوظة في ذاكرة الرب إلى الأبد.

الموقف الثالث:  موقف مريم وكسرها لقارورة الطيب

ذكرت هذه الحادثة في الأربع بشائر، لكن البشير متى يذكرها بطريقة بديعة حيث يسجل قول  الرب عما فعلته مريم  “الحق الحق أقول لكم: حيثما يُكرز بالإنجيل في كل العالم يُخبر أيضًا بما فعلته هذه تذكارًا لها” ( متى 26: 12).

إن مريم لم تكسر قارورة الطيب وقت مرض أخيها أو حتى وقت موته ولم تكفن بها جسده، لكن يبدو أن تقدير مريم للرب بعد التجربة ازداد جدًا، حيث وجدت فيه ما قاله لمرثا إنه القيامة والحياة.  فالتجربة عمقت فيها التقدير للرب وعادة الرب يجيزنا في صعاب وتجارب ليعطنا اختبارات ونعرفه بها أكثر وتزداد شركتنا معه ونتمتع بحلاوة صفاته أكثر.

وكلمة “كسرتها” تعطينا انطباع أنها قررت أنه لا يكون في حياتها شخص سوى الرب ولا تنتظر سواه.  ففي الوقت الذي كل الأنصبة فيه ستنتهي سيبقى لنا الرب النصيب الصالح الذي لن يُنزع منا.

ما فعلته مريم لم ينل مدح الصفوة وهم التلاميذ.  فابتدأ التلاميذ يوبخونها منقادين إلى اقتراح يهوذا الذي كان بمثابة المعاشرات الردية التى تُفسد الأخلاق الجيدة.  فكم كان صعبًا على امرأة رقيقة المشاعر.  إناء نسائي أضعف أن يقف ضدها علانية التلاميذ الاثنا عشر دفعة واحدة، لكنها كانت قد تدربت في موقف سابق وقت انتقاد أختها والرب فعلاً أنصفها (لو10: 41).  هذا التدريب أفادها في المرة الجديدة.  فلم ترد على التلاميذ وتركت هذه المسؤولية للرب.  ونحن كم نخسر الكثير من الوقت الثمين في الدفاع عن أنفسنا وعن آرائنا ومبادئنا وعن خدمتنا ودوافعنا!

حقًا طوباك يا مريم حيث في كل مكان وزمان تأتي سيرتك بالمدح والتأثير الطيب لتكريس حقيقي للرب، فالبيت لم يمتلئ  بما فعلتيه، لكن في كل أرجاء العالم وفي كل الأزمنة تأثير رائحة تكريسك تؤثر في كل السامعين بذلك فتزيد تقديرهم للرب وتكريسهم وذلك صدى لما فعلتيه.

 فكم صدق من قال: “ليس غبيًا من يضحي بما لا يستطيع أن يحتفظ به في سبيل أن يحتفظ بما لا يستطيع أن يفقده”.

رائع الرب ورائعة عيناه الجميلة ومحبته القوية التي لا تضعف أمام ضعفنا ولا تفتر أمام فتورنا ويذكر لنا بتقدير حقيقي حتى أبسط الأمور التي ربما نسيناها مع الوقت، يا له من مُحب رائع!!

ألا يشعرنا هذا بالخجل من أنفسنا ويجعلنا نعزم على اتباعه بعزم القلب؟

(الاخ انور داود)

(1) Anwar Daoud | Facebook

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *