طَرحت إحدى الشابات جانبًا كتابًا كانت تقرأه، لأنها اعتقدت أنه مُمِلٌ. وبعد فترة خُطِبَت. وذات مساء قالت لخطيبها: “عندي كتاب كتَّبه رجل اسمُه مثل اسمك. أَليست هذه مصادفة؟” فأجاب الشاب: “كلا، إنها ليست مصادفة؛ فأنا كتبت بالفعل هذا الكتاب”.
وفي تلك الليلة، سهرت الفتاة حتى الثالثة بعد منتصف الليل، وهي تقرأ الكتاب الذي قالت عنه مرَّة أنه مُملٌ. فقد بات الآن هو الكتاب الأكثر تشويقًا بين كل الكتب التي قرأتها، لأنها وقعت في حُبّ الكاتب، وصارت كل عبارة في هذا الكتاب تُذكّرها بمحبوبها.
صديقي: هل الكتاب المُقدَّس كتابٌ مُملٌ في نظرك؟ رُبما كنت بحاجة لأن تتقابل مع المؤلف. إنك عندما تعرف الرب يسوع المسيح؛ كلمة الله المُتجسِد، لا بد وأن تُحبَّ الكتاب المقدس؛ كلمة الله المكتوبة. لم يقُل الرسول بولس: “لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَا آمَنْتُ”، مع أنه هذا صحيح، لكنه قال: «لأَنَّنِي عَالِمٌ بِمَنْ آمَنْتُ» (٢تيموثاوس١: ١٢). فلم يعرف الرسول بولس فقط بعض الأشياء عن المسيح، بل عرفه شخصيًا. إن الخلاص ليس معرفة عن شيء فقط، لكنه يتمُّ عن طريق الإيمان بشخص الرب يسوع. فهل تعرفه يا صديقي؟ وهل تتمتع بقراءة ما يقول؟ إذا كنت تعرف الكاتب وتُحبّهُ، فإنك ستُحب كتابه.
ويا لها من صفة مباركة، يا ليت كل منا يتحلى بها، أن يُحبّ الكلمة: الكلمة المُتجسِد، والكلمة المكتوبة. فالمسيح بالنسبة لنا هو المُخلّص الوحيد وليس سواه «وَلَيْسَ بِأَحَدٍ غَيْرِهِ الْخَلاَصُ. لأَنْ لَيْسَ اسْمٌ آخَرُ تَحْتَ السَّمَاءِ، قَدْ أُعْطِيَ بَيْنَ النَّاسِ، بِهِ يَنْبَغِي أَنْ نَخْلُصَ» (أعمال٤: ١٢)، والكتاب المقدس هو المرجع النهائي والفريد للتعليم وليس غيره «وَالآنَ أَسْتَوْدِعُكُمْ يَا إِخْوَتِي لِلَّهِ وَلِكَلِمَةِ نِعْمَتِهِ، الْقَادِرَةِ أَنْ تَبْنِيَكُمْ وَتُعْطِيَكُمْ مِيرَاثًا مَعَ جَمِيعِ الْمُقَدَّسِينَ» (أعمال٢٠: ٣٢).
وإنجيل يوحنا يُفتتح باسم المسيح باعتباره «الْكَلِمَةُ». و«الْكَلِمَةُ» وباليونانية “لوجوس” تعني المُعبِّر عن الله. صحيح أن «اَللَّهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ» – لكن – «اَلاِبْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي هُوَ فِي حِضْنِ الآبِ هُوَ خَبَّرَ» (يوحنا١: ١٨). فأقنوم «الْكَلِمَة» هو الأقنوم المُعبِّر عن الله، ولا يمكن أن نعرف الله إلا بواسطة أقنوم «الْكَلِمَة»؛ لقد عبَّر في الخليقة عن حكمة الله وقوته ومجده، وعبَّر في الفداء عن محبة الله ورحمته وبره، وسيعبَّر في الدينونة عن قداسة الله وعدله وغضبه.
فمجيء المسيح، وتجسد «الْكَلِمَة» غيَّر كل شيء، فأصبح الله الآن معلَنًا «هُوَ فِي النُّورِ»، ونحن «لَنَا شَرِكَةً مَعَهُ»، لأننا نحن أيضًا «فِي النُّورِ» (١يوحنا١: ٦، ٧). وأصبحنا نتمتع بالحياة الأبدية، وهي حياة بلا بداية أيضًا، إذ أنها كانت عند الآب وأُظهرت لنا (١يوحنا١: ٢)، ومن مظاهرها التمتع بالشركة مع الآب وابنه (١يوحنا١: ٣)، فنعرفه كالإله الحقيقي وحده ويسوع المسيح الذي أرسله (يوحنا١٧: ٣).
لقد كان يستحيل قديمًا على أي إنسان أن يرى مجد الله (خروج٣٣: ١٨-٢٠) لكن مجيء المسيح، غيَّر الأمر «لأَنَّ اللهَ الَّذِي قَالَ: أَنْ يُشْرِقَ نُورٌ مِنْ ظُلْمَةٍ، هُوَ الَّذِي أَشْرَقَ فِي قُلُوبِنَا، لِإِنَارَةِ مَعْرِفَةِ مَجْدِ اللهِ فِي وَجْهِ يَسُوعَ الْمَسِيحِ» (٢كورنثوس٤: ٦).
إذن فما صار بمجيء المسيح غيَّر المشهد تمامًا «وَﭐلْكَلِمَةُ» – الذي هو الله الأزلي (يوحنا١: ١) – «صَارَ جَسَدًا وَحَلَّ بَيْنَنَا (نصب خيمته في وسطنا)، وَرَأَيْنَا مَجْدَهُ، مَجْدًا كَمَا لِوَحِيدٍ مِنَ الآبِ، مَمْلُوءًا نِعْمَةً وَحَقًّا» (يوحنا١: ١٤). وذاك المجيد الفريد الذي صار إنسانًا تمَّم عمل الفداء، وتجرَّع كأس الموت في أشنع الآلام وأرهبها! وذلك كله لأجلنا حينما كنا هالكين ولا نملك سوى خطايانا. لقد أحبَّنا وأسلَم نفسه لأجلنا، ومحبته لنا كانت محبة اختيارية باذلة. أفلا نُحبّهُ؟ نعم. بالتأكيد «نَحْنُ نُحِبُّهُ لأَنَّهُ هُوَ أَحَبَّنَا أَوَّلاً» (١يوحنا٤: ١٩).
والكيفية التي نُظهر بها محبتنا للرب – الكلمة المتجسد – هي أن نحفظ كلمته. إن الدرجة الممتازة للمحبة ليست أن نحفظ وصاياه فقط (يوحنا١٤: ١٥، ٢١)، بل أن نحفظ كلمته؛ كلمته المُعبِّرة عن فكره ومشيئته. «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً. اَلَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي» (يوحنا١٤: ٢٣، ٢٤). لأنه إن كان حفظ الوصايا معناه طاعة الوصايا الصريحة، فحفظ الكلام معناه أن يكون لنا فكر المسيح في كل شيء حتى في الأمور التي لم تُعطَ فيها وصايا صريحة.
العبد يتلقى الأوامر والوصايا ويقوم بتنفيذها، أما الصديق فإنه يعرف أفكار صديقه ورغباته ويُسرّ بأن يُسرع في تنفيذها دون أمر. وهذا هو الأسلوب الأرقى في التعامل مع سَيِّدنا الذي قال: «لاَ أَعُودُ أُسَمِّيكُمْ عَبِيدًا … لَكِنِّي قَدْ سَمَّيْتُكُمْ أَحِبَّاءَ (أصدقاء)» (يوحنا١٥: ١٥).
إن الصديق يُحمل إليه الفكر بالكلام، وحفظ كلام الرب (كلمته) يقتضي البحث بعمق في الكلمة المكتوبة للكشف عن كنوزها، وأن نخبئها في القلب ونملأ بها ذهننا النقي. فنحن مُطالبون بدرس كلمة الله والتعمق فيها حتى نعيها كما ينبغي، وأن نطبق قلوبنا عليها ونقيس حياتنا اليومية بموجبها، ومثل هذا العمل والاجتهاد فيه برهان محبتنا للمسيح.
ومن العبث أن نتكلَّم عن محبتنا للمسيح بينما نحن لا نُحبّ كلمته، ولا نحيا بالكلمة. بل من الخطأ أن نتصور أن الحياة الجديدة في حالة صحية ونمو مستمر إذا كانت كلمة الله مُهملة في مخادعنا، وفي وسط بيوتنا وعائلاتنا. فإن كانت وصايا الرب عزيزة وغالية علينا بحيث يسعدنا أن ننفذها، إلا أن “كلامه” أو “كلمته” أعمق، فإن الشركة التي لنا مع المسيح هي التي تشوِّقنا لمعرفة فكره أو مشيئته. والرب يُسرّ بروح الطاعة لكل حق يظهر للنفس.
وما أعظم البركة المؤسَّسة على حفظ كلام الرب لأن نتيجة الطاعة للكلمة هي الشركة مع الآب ومع ابنه «إِنْ أَحَبَّنِي أَحَدٌ يَحْفَظْ كلاَمِي، وَيُحِبُّهُ أَبِي، وَإِلَيْهِ نَأْتِي، وَعِنْدَهُ نَصْنَعُ مَنْزِلاً» (يوحنا١٤: ٢٣)، أي أن يكون للمؤمن شركة مع الآب والابن بقوة الروح القدس. وفي الشركة مع الآب والابن يوجد الفرح الكامل. ومن الجهة الأخرى فإن الذي لا يحب الرب لا يحفظ كلامه «اَلَّذِي لاَ يُحِبُّنِي لاَ يَحْفَظُ كلاَمِي» (يوحنا١٤: ٢٤). وهذا هو الاختبار الحاسم فلقد جعل الرب الطاعة للكلمة أسمى مقياس لمحبة الرب.
أَتُحِبُّنِي؟ … أَتُحِبُّ كلاَمِي؟ … هذا سؤال الرب! ويا له من سؤال فاحص لنا!