ما أكثر الغربان الناعقة في مجتمعنا هذا
نجدهم يتكاثرون بل يتوالدون، في الصحف والمجلاّت والإذاعات والتلفزيون، وفي المظاهرات، والمؤتمرات، والخطابات، والمقابلات، بل أيضاً في دور المحاكم وحتى في الكونجرس. نعيقهم يرتفع في أوركسترا أو أجواق تبعث في الواقع على الاشمئزاز، وتؤذي الآذان، والعقول والقلوب، وتخرج عن سياق المنطق والتَبَصُّر.
ولست استهدف من هذا الإهانة والاحتقار، ولكنني، بعد سنوات من البحث والتأمّل، ومحاولة استيعاب ما يجري في مجتمعنا وفي هذا البلد الذي صار لنا وطناً جديداً، أجد نفسي، كمؤمن مسيحي، أعاني مما أشهد من التواء في التفكير، ومن المفاهيم التي أخذت تسود هذا المجتمع بحيث أضحينا لا ندري في أيّ اتجاه نسير، وكأنما صرنا كسفينة تمخر عباب بحر هائج بعد أن فقدت بوصلتها في ليلة مدلهمة بالغيوم.
ولكي لا يظل كلامي محصوراً في المطلقات فإنني أود أن أضرب بعض الأمثال على الواقع المؤلم المُعاش. فلا أكون بذلك خطابياً يتلاعب بالعواطف، أو كمن يُلقي الكلام على عواهنه من غير دليل أو إثبات.
أولاً: مفهوم فصل الدين عن الدولة
لقد اختلفت التأويلات حول مفهوم فصل الدين عن الدولة في الأوساط المسيحية، وفي الأوساط المجاهدة في سبيل دعم مفهوم “الفصل”. فالأوساط المسيحية، أو بعضها على الأقل، تُفسِّرُ قول المسيح: “أعطوا ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، بأنه دعوة صارخة لفصل الدين عن الدولة. قد يكون هذا هو المعنى الظاهري لهذه الآية، ولكن كما يبدو لي، أن المسيح أراد أن يقول: لا تعطوا ما هو للّه لقيصر، ولا تعطوا ما هو لقيصر لله. وبمعنى آخر، إن حقوق الله هي خاصة بالله، من عبادة، وطاعة، وتمجيد، وحياة يرضى عنها الله، وأعطوا لقيصر حقوقه من حيث الضرائب، وواجب الاحترام، والخضوع للقوانين (التي لا تتعارض مع إيماننا بالله)، والمحافظة على الأمن، والدفاع عن أرض الوطن في حالة الاعتداء عليها. فالذين فهموا هذه الآية على غير هذا التأويل قد أساءوا تفسيرها. والدليل على ذلك أن المسيح قال عن المؤمنين أنهم ملح الأرض، وأنهم نور العالم، ومعنى ذلك، أنهم لا يعيشون بمعزل عن المجتمع والقوانين بل يجب أن يكون لهم تأثير كبير على رفع مستوى المجتمع، وعلى صياغة هذه القوانين… على أصواتهم أن تعلو فوق كل صوت لا بالإكراه والقوة، ولكن في التعبير عن الفكر الكتابي حول شؤون الدين والدنيا. ونرى المشكلة ذاتها، وبصورة أضخم وأكثر إضراراً في الأوساط المدينية التي تريد أن تحطم كل ما مُتعلَّق بالدين، والمسيح، والمسيحية باسم فصل الدين عن الدولة.
ثانياً: حرم الأكثرية من استخدام رموزها
بناءً على التأويل المغلوط لآية أعطوا ما لقيصر فإن القوى المجاهدة في سبيل القضاء على جميع الرموز المسيحية أخذت تدّعي أن هذه الرموز تؤذي مشاعر غير المسيحيين. والواقع أن الأقليات غير المسيحية في هذا البلد لم يبدُ عليها أو منها أي شكوى ضد هذه الرموز. فالمجتمع الأمريكي في أساسه قام على القيم المسيحية وليس على قيم أي دين آخر، ومن جملتها الحرية والديمقراطية؛ فلماذا تُحرم الأكثرية من استخدام رموزها؟ وإن صحَّ أن الأقلية تشعر بالأذى من هذه الرموز، فإن أحداً لم يحرم الأقليات من استخدام رموزها الدينية. ثم هل يجوز للأقليات، بناء على المفهوم الديمقراطي، أن تفرض مواقفها على الأكثرية؟ من الواضح أنَّ الأكثرية لم تمنع البوذيين، والهندوسيين، والمسلمين، واليهود، وسواهم من أصحاب الطوائف الأخرى من بناء معابدهم، وهياكلهم، ومجامعهم، وجوامعهم لأن الحرية جزء لا يتجزأ من ديمقراطية هذا البلد، بل هي في صلب المسيحية في الذات. يا ليت هؤلاء المجاهدين يقومون بدراسة أوضاع الأقليات في البلدان غير المسيحية حيث تمنع القوانين في بعضها بناء كنيسة واحدة، وفي البعض الآخر تُقام العقبات الكأداء عند إقامة بيوت الله. لماذا لا ينعق هؤلاء المجاهدون ويطالبون بحقوق هذه الأقليات المهضومة؟
ثالثاً: النشاطات السلبية
لقد بلغ من هَوْسِ هؤلاء المجاهدين أن طالبوا بمنع توزيع أو تبادل بطاقات عيد الميلاد بين الطلاب في المدارس العامة لأن فيها ذكر الله والمسيح وبعض الرموز الدينية. هذه الناموسيّة الملتوية إن دلت على شيء إنما تدل على ضحالة تفكير المنادين بالحرية المصطنعة. وأود أن أسأل هنا: ماذا يكون موقف هؤلاء الناعقين لو أن بعض المدارس العامة طبقت ذات القاعدة على الطلاب، واستخدمت الرموز المسيحية حضارياً وثقافياً وتاريخياً؟ إنني واثق أن فرقة الغربان هذه لن تتوقف عن النعيق ليلاً ونهاراً احتجاجاً على تلك المدارس.
رابعاً: الهجوم على الوصايا العشر
لقد قامت قيامة هؤلاء المنافقين ضد عرض الوصايا العشر أمام إحدى دور المحاكم في ألاباما، وأرغموا القاضي المشرف على الاستقالة لأنه رفض أن يزيل اللوحات الحجرية التي نقشت عليها هذه الوصايا. علماً أن هذه الوصايا تجسد ليس فقط القيم الدينية، بل أيضاً القيم الحضارية الضرورية لخلق مجتمع سليم. إن مثل هذه الوصايا موجودة في كل الأديان وإن لم تكن مجموعة في لائحة واحدة كما هي الحال في التوراة؛ حتى الملحدون لا ينكرون أهمية هذه القيم وأثرها الصالح في المجتمع. فما بال هؤلاء الناعقين قد فتحوا أشداقهم كالوحوش الضارية الجائعة وعلا زئيرهم ضد هذه الوصايا؟
وماذا نقول عن ذلك المدرس المسكين الذي منعه مدير مدرسته من تدريس “إعلان الاستقلال” تاريخياً لأنه أشار فيه إلى ذكر اسم الله، بل ماذا نقول عن المطالبين بمحو عبارة “نحن نثق بالله” من عملة الدولار الورقية؟ لقد نسي هؤلاء “أن البر يرفع شأن الأمة وعار الشعوب الخطيئة”، فانقضّوا على كل ما هو خيّر، وصالح، وانتفضوا على القيم الدينية التي تسمو بالإنسان، باسم فصل الدين عن الدولة، ويا ليتهم يدركون ما معنى فصل الدين عن الدولة.
أما آن لهذه الغربان أن تصمت وتستكين إلى أعشاشها فترتاح وتريح؟