يكشف البشير متّى في روايته لقصة الميلاد في الفصل الثاني من إنجيله عن تنوّع مواقف الناس من حقيقة قدوم المسيح إلى العالم، وعن طرق تجاوبهم وردود أفعالهم تجاه طفل بيت لحم، ومعجزة الميلاد العذراوي الذي وصفه بولس بقوله: “عظيم هو سر التقوى: الله ظهر في الجسد.” وفي الفصل الثاني من إنجيل متى نلاحظ ثلاثة مواقف وردود أفعال تعبّر عن تجاوب ثلاث شرائح من المجتمع مع ميلاد المسيح هي:
أولًا: الغيرة والانتقام في موقف هيرودس الملك
وهو موقف واضح، وغير مستغرب من طاغية. موقف هيرودس يمثل نسخة عما يقوم به الطغاة في كل العصور. فهم مرضى نفسيًّا يمارسون أساليب الدهاء، والوحشية في الوصول إلى العرش والمحافظة عليه، ويقومون بتصفية كل من يهدّد عرشهم من قريب أو بعيد. وقد رأى العالم في فبراير 2017 كيف قام رئيس كوريا الشمالية باغتيال أخيه غير الشقيق في مطار كوالالمبور عاصمة ماليزيا بغاز الأعصاب لارتيابه في أنه سيكون وريثًا محتملًا له في المستقبل. وهذا ما فعله هيرودس الملك عندما سمع من المجوس خبر ميلاد ملك اليهود المنتظر. اضطرب وشعر بأنه مهدّد، فبدأ تحقيقاته فورًا واستشار المختصين بالنبوات، ثم لجأ لخداع المجوس والتخطيط لتصفية منافسه المحتمل في مهده. وبعدها قام بتنفيذ مجزرة وحشيَّة بحقِّ أطفال بيت لحم راح ضحيتها حوالي 2000 طفل من ابن سنتين وما دون، وبهذا ظن أنه قد قضى على أي تهديد مستقبلي لعرشه.
ثانيًا: اللامبالاة في موقف شعب إسرائيل
كان اليهود في زمن ولادة المسيح يرزحون تحت ظلّ الاحتلال الروماني وعبوديته، وكانوا أكثر الناس المعنيين بميلاد المسيح المنتظر، حيث كانوا ينتظرونه على أحرِّ من الجمر متوقّعين أن يجيء بحسب الأنبياء، ويخلصهم من أعدائهم الرومان ويردّ لهم الملك العتيد. ولكن الغريب جدًا أن أحفاد الأنبياء ومالكي الوعود العظمى والثمينة، الذين انتظروا هذا الحدث لقرون طويلة، عندما صارت نبوات المسيح المنتظر حقيقة واقعة أمام أعينهم وعلى بعد 6 أميال من قصر هيرودس، لم يؤمنوا بها ورفضوها غير مبالين بمجيء ملكهم الحقيقي. فرؤساء الكهنة وكتبة الشعب يعرفون التوراة جيدًا ويعرفون تفاصيل النبوات بدقّة، ولكنهم برهنوا على أن موقفهم الحقيقي من النبوات هو عدم الإيمان، واللامبالاة، لأنهم فضلوا المحافظة على مراكزهم ومصالحهم أكثر من الإيمان بمواعيد الله وسماع صوته.
ثالثًا: العبادة في موقف المجوس
ينفرد البشير متى بسرد قصة زيارة المجوس إلى بيت لحم، ولكنه لا يخبرنا بأية تفاصيل عن أصلهم وهويتهم الحقيقية أو ديانتهم، أو مركزهم الاجتماعي أو حتى عددهم. كل ما نعرفه عنهم هو أنهم مجوس أو حكماء قادمين من المشرق باحثين عن المولود ملك اليهود، مهتدين بنجم في السماء. إنه موقف عجيب من أناس بعيدين وغرباء عن شعب إسرائيل، لا يتوقّع أحد أنهم سيأتون من أقصى الأرض لزيارة طفل بيت لحم وتقديم السجود والهدايا له. هؤلاء الأشخاص يمثلون الباحثين عن الله الذين يصغون لصوت الله الذي يتكلَّم إلى قلوبهم في الطبيعة أو في كلمته المكتوبة، أو في الأحلام، ويسعون وراء كلمته ولقائه، ومعرفته الشخصية، وتقديم العبادة والسجود والإكرام له. إن رسالة متى التي تدور حول قصة المجوس، هي توبيخ لمعظم شعب إسرائيل وقادتهم الدينيين، الذين تنكروا لميلاد المسيح وتجاوبوا معه بعدم إيمان ولامبالاة. هذا الموقف يؤكد قول يسوع عن قائد المئة:
“الحق أقول لكم: لم أجد ولا في إسرائيل إيمانًا بمقدار هذا. وأقول لكم: إن كثيرين سيأتون من المشارق والمغارب ويتكئون مع إبراهيم وإسحاق ويعقوب في ملكوت السماوات، وأما بنو الملكوت فيُطرحون إلى الظلمة الخارجية.” (متى 10:8)