كم من المرات ملأت الحيرة قلوب المؤمنين وشغلت أذهانهم، ولا سيما عندما تأتي الأزمات وتتلبد السماء بالغيوم وتصبح الهموم كالسحب الداكنة. ويتساءل القلب الموجوع في حيرة: هل يسمعني الله؟ هل يسمح بهذه الشرور حولنا، أم هو لا يبالي بما نمر فيه؟
أُصلي لأجلك يا من أنت حائر وأشعر بألم لأجل آلامك. لكن تعال معي بحيرتنا، التي نمر فيها كلنا، لنتفهم الأمر من كلمة الله.
تحيَّر النبي حبقوق متألمًا بسبب الحالة المتردية التي وصلت إليها مملكة يهوذا المحبوبة إلى قلبه. كان يرى شرور شعبه الكثيرة، بل ويرى الويلات القادمة عليهم، تألم من سلوكهم وتألم أكثر أن شريعة الله لا يُعمل بها ولا حتى أصبح لها تقديرًا «جَمَدَتِ الشَّرِيعَةُ وَلاَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ بَتَّةً لأَنَّ الشِّرِّيرَ يُحِيطُ بِالصِّدِّيقِ، فَلِذلِكَ يَخْرُجُ الْحُكْمُ مُعْوَجًّا» (حبقوق٤:١).
وجاء حبقوق بحيرته وسكبها، ونفَّس عن الغليان والوجع الذي بداخله أمام الله، حائرًا سائلاً الله: هل تسمع يا رب؟ وحتى متى أنت لا تُخلِص؟ وحتى متى تترك الشرير يعيث فسادًا هنا وهناك؟ بل تساءل سؤالاً آخر في غاية الخطورة: «فَلِمَ تَنْظُرُ إِلَى النَّاهِبِينَ وَتَصْمُتُ حِينَ يَبْلَعُ الشِّرِّيرُ مَنْ هُوَ أَبَرُّ مِنْهُ» (حبقوق١٣:١).
كم أنت متحير يا حبقوق ومُتعَب وممتلئ بالتشوش. وهكذا كثيرًا ما كنت أنا وأخوتي مثلك. لكنني أحييك أيها التقي الحائر أنك ذهبت بصراخاتك وحيرة قلبك إلى الله، متممًا قول الوحي الإلهي «اسْكُبُوا قُدَّامَهُ قُلُوبَكُمْ. اللهُ مَلْجَأٌ لَنَا» (مزمور٨:٦٢).
ودعونا نتجول مع حبقوق لنكتشف أين وكيف وجد حلاً لحيرته وإجابة لأسئلته؟
أولاً: «عَلَى مَرْصَدِي أَقِفُ وَعَلَى الْحِصْنِ أَنْتَصِبُ وَأُرَاقِبُ لأَرَى مَاذَا يَقُولُ لِي» (حبقوق١:٢).
صعد حبقوق عاليًا بعيدًا عن ضوضاء الناس وصراعاته وذهب إلى المرصد العالي، المكان الذي يراقب منه رجال الفَلك ظروف الطقس وأحواله. وهذا ما نحتاج أن نفعله أن أردنا أن نستعرض أمورنا لدى الله ونسمع منه ماذا يجيب عن شكوانا. هناك على المرصد، في الاختلاء بالرب، سمع أروع إجابة لسؤاله؛ فيقول حبقوق مُتهلِلاً: «فَأَجَابَنِي الرَّبُّ» قائلاً:
١. «لأَنَّ الرُّؤْيَا بَعْدُ إِلَى الْمِيعَادِ وَفِي النِّهَايَةِ تَتَكَلَّمُ وَلاَ تَكْذِبُ» (حبقوق٣:٢)
فـإن كان حبقوق مُتحيرًا ونحن معه لنقول للرب: حتى متى. لكن الرب يجيب أن كلامه له توقيت وميعاد لا بد وأن يتحقق فيه «ليْسَ اللهُ إِنْسَانًا فَيَكْذِبَ وَلا ابْنَ إِنْسَانٍ فَيَنْدَمَ. هَل يَقُولُ وَلا يَفْعَلُ؟ أَوْ يَتَكَلمُ وَلا يَفِي؟» (عدد١٩:٢٣).
٢. «إِنْ تَوَانَتْ فَانْتَظِرْهَا لأَنَّهَا سَتَأْتِي إِتْيَانًا وَلاَ تَتَأَخَّرُ» (حبقوق٣:٢)
إن ما تحتاجه هو انتظار الرب ومواعيده، فلا يمكن ألا يحقق الرب كلامه، لكن في وقته يسرع به. وإن كان صعب على الطبيعة البشرية الانتظار، لكن انتظار الرب الصادق يعطي قوة وتشجيعًا لأن «مُنْتَظِرُو الرَّبِّ فَيُجَدِّدُونَ قُوَّةً» (إشعياء٣١:٤٠).
٣. «هُوَذَا مُنْتَفِخَةٌ غَيْرُ مُسْتَقِيمَةٍ نَفْسُهُ فِيهِ. وَالْبَارُّ بِإِيمَانِهِ يَحْيَا» (حبقوق٤:٢)
إن كلام الرب ومواعيده لا يقبلها الشرير البعيد المتكبر والمقاوِم لفكر الله «الإِنْسَانَ الطَّبِيعِيَّ لاَ يَقْبَلُ مَا لِرُوحِ اللهِ لأَنَّهُ عِنْدَهُ جَهَالَةٌ» (١كورنثوس١٤:٢). أما المؤمن البار فيقبل ويصدق ويحيى، بل وينتظر الرب يحقق مواعيده. ألم ينتظر إبراهيم بالإيمان وعد الرب سنوات طويلة: «وَتَيَقَّنَ أَنَّ مَا وَعَدَ بِهِ هُوَ قَادِرٌ أَنْ يَفْعَلَهُ أَيْضًا» (رومية٢١:٤).
ثانيًا: إني أبتهج بالرب مع أن الظروف لم تتغير.
ما أروع هذا الاختبار! بدأ حبقوق مُتحيرًا وانتهى مُطمئنًا. بدأ متسائلاً متشككًا أن الله يسمعه ولا يجيب، بل ويصمت عندما يرى الشرير يبتلع البار، لكنه انتهى مسبِّحًا ساجدًا لله فرحًا بإله خلاصه. تعال معي عزيزي لنسمع ما يقوله حبقوق بعد أن سمع الرب:
١. «سَمِعْتُ فَارْتَعَدَتْ أَحْشَائِي» (حبقوق١٦:٣)
كان حائرًا ومتسائلاً لماذا لا تسمع يا رب ولماذا تترك الشرير يبلع البار؟ وها هو يقول: ارتعدت عندما أعلن الرب ما سيعمله في قضائه الآتي على الأشرار.
٢. فَمَعَ أَنَّهُ لاَ يُزْهِرُ التِّينُ وَلاَ يَكُونُ حَمْلٌ فِي الْكُرُومِ… فَإِنِّي أَبْتَهِجُ بِالرَّبِّ وَأَفْرَحُ بِإِلَهِ خَلاَصِي. (حبقوق١٧:٣-١٨).
عندما سمع حبقوق إجابات الرب دخل السرور قلبه، وهدأت نفسه، واكتفى وشبع وتهلل بوجود الرب نصيبًا غنيًا في حياته، وكأنه يقول مع أساف: «مَنْ لِي فِي السَّمَاءِ؟ وَمَعَكَ لاَ أُرِيدُ شَيْئًا فِي الأَرْضِ» (مزمور٢٥:٧٣).
٣. «اَلرَّبُّ السَّيِّدُ قُوَّتِي وَيَجْعَلُ قَدَمَيَّ كَالأَيَائِلِ وَيُمَشِّينِي عَلَى مُرْتَفَعَاتِي» (حبقوق١٩:٣)
فبعد أن كان خائرًا ضعيفًا، تشدد وتشجع إذ سمع صوت الرب. صحيح أن الرب لم يعطهِ إجابات مباشرة لأسئلته، لكنه تشجع إذ رأى أن الرب في المشهد ممسكًا بزمام الأمر وله توقيت يتدخل فيه، والرؤيا بعد إلى الميعاد وستأتي إتيانًا ولا تتأخر. لقد تحول قلبه إلى الرب وهدأ أمامه وتشدد بقوة الله حتى أنه أصبح مثل الأيائل ماشيًا لا في الوديان، بل على قمم المرتفعات.
عزيزي؛ هل حيَّرتك أسئلتك ولم تجد لها إجابة؟ أشجعك أن تأتي معي أمام الرب. وحده يهدئ نفسك، يفتح العين والقلب على حكمته وقوته وسلطانه، بل وأنه هو الممسك بزمام الأمور، فيفرح القلب وتُشفى النفس بالرب قوتنا الذي قال عنه الوحي: «ذَلِكَ الَّذِي مَعَهُ أَمْرُنَا» (عبرانيين١٣:٤).
امين ربنا يبارك الموقع ويبارك الكاتب