شطّطت مراكب بحريّة جنوبي الجزر البريطانيّة عندما انتهت معركة واترلو الشهيرة بين نابليون الفرنسي وويلنغتون قائد جيش الإنكليز. ويخبر التاريخ أنّ تلك المراكب حاولت مشاركة نتيجة المعركة عن طريق التلويح بالأعلام التي كانت تُرى من برج كاتدرائيّة ونشيستر. وعندما ظهرت أول كلمتين عمّ الخوف في القلوب لأنّ الرسالة كانت تقول: “هُزِم ويلنغتون”. وبسبب حلول الضباب لم يتّضح منها شيء آخر سوى ذلك. وكان ذلك صدمة كبيرة على سكّان مدينة لندن الذين كانوا يشعرون بأنّ مصير بلادهم بكاملها متوقّف على نتيجة تلك المعركة الاستراتيجيّة. لكن بعد مدّة قصيرة ارتفع الضباب، وظهرت الرسالة بكاملها وكانت تقول: “هزم ويلنغتون جيشَ نابليون.” وللحال انتشر الخبر، وعمّ الفرح والبهجة جميع أنحاء المملكة البريطانيّة، وقرعت الأجراس، وتبدّد الحزن الذي سيطر مدة على القلوب.
هكذا كانت الحال بالنّسبة لتلاميذ الربّ يسوع بعد الصليب فقد أصابتهم خيبة أمل شديدة عندما صُلب سيّدهم على يد قادة الأمّة. وبالرّغم من أنّ يسوع سبق وأنبأهم بأنّه سيُصلب، وفي اليوم الثالث يقوم؛ إلاّ أنهم لم يفهموا ذلك، ولم يدركوا قصد الربّ. فعاد بطرس إلى الصيد الذي كان تركه، وتبعه آخرون من التلاميذ في ذلك. وتوجّه اثنان منهم عائدَيْن إلى قرية عمواس بعد أن غمر اليأس قلبيهما قائلين، “ونحن كنّا نرجو أنّه هو المزمع أن يفدي إسرائيل.” (لوقا 24: 21) وكأنّه يوجد فداء بدون دفع ثمن، أو توجد حياة بدون موت.
القيامة تتويج لأحداث الأسبوع العظيم
مثلما ولد المسيح في الوقت المعين، هكذا فقد ظهر ترتيب زمني فائق في تتويج خدمته الفدائية. وقد تمّم المسيح رموزاً خلاصيّة شتّى في أسبوعه الأخير.
اختيار الذبيحة: كان يسوع قد سبق فدخل أورشليم في يوم الشعانين وهو اليوم الذي كان الشعب يختار الأضحيات لذبيحة الفصح. في ذلك اليوم جرى انتخاب ما لا يقل عن ربع مليون حمل لذبيحة الفصح بحسب المؤرخ يوسيفوس. وهكذا أعلن الآب السماوي عن انتخابه للحمل الذي سيرفع خطية العالم يوم كان اليهود ينتقون خراف الفصح. فهو سيقدّم فدية للصفح عن الجنس البشري.
فحص الحمل: كانت الحيوانات المنتخبة تُحفَظ للفحص مدّة أربعة أيّام قبل ذبحها للتأكد من خلوّها من العيوب (خروج 12: 5-6). في أيّام الفحص تلك كان يسوع أيضاً يُفحَص من اليهود ليظهر أنّه بلا عيب. آخر الكلّ فحصه رؤساء الكهنة والكتبة والسلطات السياسيّة ولم يقدروا أن يمسكوه بشيء. لكن إعلان كماله لم يأتِ من قبل الشعب اليهوديّ، بل من قبل الأمم. فإذ لم يجد اليهود علّة على حمل اللّه استخدم اللّه فم بيلاطس ليعلن، “لست أجد فيه علّة واحدة” (يوحنا 4:19). وإذ مضى يسوع للصلب كان الشعب يتهيّأ لذبح الفصح.
رفع الخمير: ولمّا كانت الساعة الثانية عشر ظهراً أظلمت الشمس وسط النهار، وحجب الآب السماوي وجهه عن ابنه الذي ارتضى أن يحمل خطايانا. في تلك السّاعة كان الكهنة يعطون الشعب الإشارة للبدء بعمليّة التخلّص من كلّ الخمير الذي جمعه اليهود في البارحة وحتّى الساعة. كانت عمليّة التخلّص منه تتمّ إمّا حرقاً، أو إغراقاً في الماء، أو تذرية في الهواء. في ذلك الوقت كان المسيح يتمّم بصليبه عمليّة فصْل خطايانا عنّا بدفع ثمنها بالكامل.
بوق الكاهن لإعلان الذبح: في آخر لحظات الصلب صرخ المسيح، “قد أُكمل.” في تلك الساعة كان بوق الكهنة يضرب ليأذن للشعب ببدء عمليّة ذبح الفصح الذي يجب أن يتمّ بين العِشاءين، أي بين الساعة الثالثة والخامسة مساءً (عدد 3:9). وهكذا تمم المسيح رمز عيد الفصح، “لأن فصحنا أيضاً المسيح قد ذُبح لأجلنا” (1كورنثوس 7:5). أيّد الآب السماوي من السماء عمل الابن، وشقّ حجاب الهيكل من فوق إلى أسفل معلناً بطلان فعاليّة الذبائح الحيوانيّة بعد تقديم ذبيحة المسيح الأبديّة، منهياً بذلك عهد النّاموس والذبائح بتقديم ذبيحة العهد الجديد الأزليّة. وهكذا تمّم المسيح بصلبه رمز عيد الفصح والفطير كما تمّم أيضاً رمز عيد الكفّارة.
يوم الراحة: وإذ دُفِن يسوع في القبر في عشيّة يوم الفصح أوّل يوم السبت تمّم يوم الرّاحة وأوّل أيام الفطير الروحيّة.
عيد البواكير: في غد السبت من أسبوع الفطير أي في يوم الأحد يأتي عيد البواكير. يحتفل فيه اليهود ببداية موسم الحصاد وباكورة غلاّتهم. وقد قام المسيح من الأموات في اليوم الثالث متمّماً رمز عيد البواكير، مقدّماً نفسه لله باكورة من الأموات. وإن كان يوجد باكورة فالمعنى أنّ المزيد سيأتي لاحقاً.
لو لم يقم المسيح من الأموات فإنّ تتميم كل تلك الإشارات في الصليب يبقى بلا فعاليّة، إذ إنّه إشارة على عدم إتمام العمل، وإلى أنّ الحمل ليس بلا عيب والكفّارة ناقصة. لكنّ ابن اللّه القدّوس لا يمكن أن يبقى في القبر، لأنّ الموت لا يمسكه لأنّه بلا خطيّة. وكما تمّم بدقّة متناهية تفاصيل رموز العهد القديم بموته، نراه يتمّم بقيامته تلك الرموز عينها. لقد قام كما قال، وبقيامته في يوم البواكير كان أوّل حصيد لقيامة الأبرار عند مجيئه.
وهكذا إذ تمم المسيح بنفسه كلّ هذه الرموز قَلَبَ نتيجة المعركة، وعوضاً عن الهزيمة التي شعر بها التلاميذ جميعاً مثل سكان مدينة لندن في زمن واترلو، رفعوا ونرفع معهم رايات الانتصار، ونعلن أنه انتصر وقام من أجلنا، وها نحن نحيا بنصرته، ونهتف مع الرسول بولس، “أين شوكتك يا موت؟ أين غلبتكِ يا هاوية؟… شكراً لله الذي يعطينا الغلبة بربنا يسوع المسيح”. (1كورنثوس 55:15 و57)