صنعتني بإعجازك المدهش
(مز139: 14)
صمَّم الله جسم الإنسان وصنعه بطريقة مدهشةومتميزة،ِّ وهذا ما دفع داود أن يهتف قائلاً: «أَحْمَدُكَ مِنْ أَجْلِ أَنِّي قَدِ امْتَزْتُعَجَبًا (أي صُنِعتُ بشكل عجيب، أو ”أعجزت فأدهشت“ – الترجمة اليسوعية؛ أو ”صنعتني بإعجازك المدهش“ – ترجمة تفسيرية). عَجِيبَةٌ هِيَ أَعْمَالُكَ، وَنَفْسِي تَعْرِفُ ذَلِكَ يَقِينًا» (مز139:14).
أولاً: مصنوع من تراب لكنه عجب العجاب
الكتاب المقدس يعلمنا أن الله جبل الإنسان من تراب الأرض (الذي يحتوي علىما يقرب من عشرين مادة كيميائية) «وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلَهُ آدَمَ تُرَابًا مِنَ الأَرْضِ، وَنَفَخَ فِي أَنْفِهِ نَسَمَةَ حَيَاةٍ. فَصَارَ آدَمُ نَفْسًا حَيَّةً» (تك2: 7). صحيح أن المواد الكيميائية الأساسية في الجسم موجودة في تراب الأرض، لكن لا يمكن لهذه المواد أن تصنع من نفسها أنسجة الخلايا، والأجهزة لن تعمل من تلقاء نفسها. هذايتطلب صانعًا ماهرًا قديرًا. يُوجد أكثرمن 70 تريليون خلية في الجسم البشري، وكل هذه الخلايا منسوجة معًا ومصمَّمة، لتقوم بوظيفتها في انسجام، وتعمل ما هو صحيح في الوقت الصحيح بأمر خالقها. ومع أنها صغيرة جدًا، ولا تُرى بالعين المجرّدة،لكن يُعتبر كل منها مصنعًا يعمل بطريقة تُدهش العقول. حار العلماء والأطباء وسط أعضاء هذا الجسم العجيب، فعملوا تخصصًا لكل عضو، وبمرور الزمن يزداد التخصص تشعبًا بتفاصيل أدق.
دعونا نأخذ جولة سريعة لنرى كيف تعمل بعض الأجهزة والأعضاء في الجسم البشري:
النظام الحركي: جسم الإنسان به نظام حركي مكوَّن من العظام والغضاريف، يُسمَّى ”الهيكل العظمي“. في جسم الانسان 250 عظمة مع الأربطة والمفاصل التي صُمِّمت من أجل الحركة، تتحرك بدقة عجيبة من خلال آلاف العضلات. هذا الهيكل يَتَمَيَّز بالمرونة، ويلزم أن تشحم هذه الأجزاء المتحركة لتقليل الاحتكاكات المضرة. تزييت وتشحيم الآلات التي من صنع الإنسان تأتي من مصادر خارجية، لكن الجسم يُزيِّت نفسه بنفسه، عن طريق تكوين كمية مناسبة من مادة تشبه الجيلي، في كل مكان يحتاج لذلك.
مخ الإنسان: هو مركز نظام حاسوبي متطور يفوق أي كمبيوتر صنعه الإنسان. ويُرسل المخ مليارات الإشارات المعلوماتية داخل الجسم. هذه المعلومات تتحكم في كل حركة،بدءًا من أكبر عضلة، حتى رفة جفن العين. الأعصاب في الجسم هي بمثابة الأسلاك التي تحمل المعلومات ذهابًا وإيابًا من الجهاز العصبي المركزي. كما يتعامل المخ مع قدر مذهل من المعلومات بتناسق وتوافق عجيب في الوقت ذاته. المخ يتفاعل مع جميع الألوان والأشياء التي نراها، وخطوات أقدامنا على الأرض، والأصوات الصادرة حولنا، ودرجة جفاف حلوقنا، حتى لمسات أصابعنا على لوحة المفاتيح! المخ ينتج أكثر من مليون رسالة في الثانية ويعطي وزنًا لمدى أهمية كل هذه البيانات، ثم يقوم بتصفية البيانات غير المهمة نسبيًا. وظيفة الفرز هذه هي التي تسمح لنا بالتركيز ومواصلة العمل على نحو فعال. يَتَمَيَّز المخ البشري بالذكاء والقدرة على التحليل والتعليل، ويرسم التطلعات والآمال، ويخطِّط لاتخاذ الإجراءات اللازمة، والتواصل مع الآخرين بشكل جيد.
قلب الإنسان: هو مضخّة عضلية يضخ الدم عبر آلاف الأميال من الأوعية الدموية حاملًا الغذاء والأكسجين إلى كل جزء من أجزاء الجسم. يضخ القلب في المتوسط ستة لترات من الدم كل دقيقة، وفي يوم واحد يضخ الدم ما يكفي لملء أكثر من أربعين برميلاً (سعة الواحد 200 لترًا)؛ أي يضخ حوالي 280 ألف طن من الدم سنويًا، ليصل إلى أجزاء الجسم المختلفة.
عين الإنسان: يمكن أن تُميّز بين سبعة ملايين لون. لديها قدرة على تركيز النظر بشكل تلقائي وتتعامل مع 5,1 مليون رسالة بصرية في آن واحد. في شبكية العين عشر طبقات، في آخرها مئة وأربعون مليون مستقبل للضوء و400 مليون مخروط صغير و300 مليون من الألياف، ونصف مليون عصب دقيق تتحرك معًا بدقة متناهية.
أذن الإنسان: فيها ثلاثون ألف خلية سمعية لنقل أدقّ الأصوات. كل الأصوات التي نسمعها تُعزف على آلة موسيقية صغيرة ودقيقة جدًاداخل الأذن. الموجات الصوتية تدخل القناة السمعية وتنتقل عن طريق عظام الأذن الوسطى إلى جزء صغير جدًا ملفوف يشبه قوقعة البحر. تعمل الأذن الخارجية في الهواء. لكن القوقعة تعمل في وسط سائل، تنقل الموجات الصوتية من الهواء إلى السائل؛ وهي واحدة من أصعب المعضلات في مجال العلوم. جعل الله ثلاث عظيمات صغيرة للقيام بهذه المهمةالتي تُمكننا من الاستماع بشكل سليم. العجيب، أن حجم هذه العظام لا يتغير إلا قليلاً منذ يوم ولادتنا.
جلد الإنسان: الجسم البشري لديه القدرة على ضبط درجة حرارته من خلال أنظمة للتدفئةوالتبريد بشكل تلقائي. يوجد تحت سطح الجلد16 مليون مكيف لحرارة الجسم، وهي الغدد العرقية. فقطرات العرق تُصب من هذه الغدد الصغيرة في الجلد لتبريد الجسم واستقرار درجةحرارته.
ثانيًا: نمو الجسم البشري والصيانة الذاتية
الجسم به مصنع للكيماويات أكثر تعقيدًا من أي مصنع بناه الإنسان. ويقوم بتحويل الطعام الذي نأكله إلى أنسجة حية، ويعمل على نمو الجسد والدم والعظام والأسنان. حتى أن إصلاح الجسم يتم من ذاته إذا تلف جزء بسبب حادث أو مرض. وهناك مليارات الأفران في خلايا الجسم، تحرق الغذاء لتوليد الطاقة.
ثالثًا: التفرد العجيب لكل إنسان
صمّم الله لكل إنسان قزحية عين يتميز بها، ورائحة جلد متميزة، وتركيبًا دمويًّا خاصًّا به، وبصمة أصابع يتفردبها، بل إن نبرة صوته أيضًا تتميز عن نبرة صوت أي إنسان آخر.
رابعًا: تحفة الصناعات الإلهية
بالرغم من العيوب الجينية الموروثة المتراكمة منذ سقوط الإنسان، وكثرة الأمراض التي تُصيب الجسم البشري، لكن سيبقى جسم الإنسان ”أعجوبة الأعاجيب“ في خليقة الله، ويُعد معرضًا هائلاً يُبهر العيون الناظرة، ويُذهل العقول المُفكرة، وهو خير شاهد على أنه ”صنعة الله“، الذي لا نظير له في عظمة قدرته وروعة تصميمه وإبداعه. حسنًا شهد العالم الالماني الشهير ”فون رينكه“ قائلاً: ”إذا سلَّمنا أن المادة الحية أتت من المواد غير الحيَّة، في زمن ما من الأزمنة، فيقينًا ستبقى عقيدة ‘الخلق والخالق’ هي النظرية الوحيدة التي توافق المنطق السليم ويقبلها عقل الانسان“.
وماذا نقول في الختام؟! لا نملك سوى أن نهتف مع المرنم: «مَا أَعْظَمَ أَعْمَالَكَ يَا رَبُّ! كُلَّهَا بِحِكْمَةٍ صَنَعْتَ»(مز104: 24).