“أين هو المولود؟” سؤال يردّده المجوس الحكماء (متى 2:2) ذلك لأنهم رأوا نجمًا قد أشرق نوره وتلألأ سناؤه يبشِّر بمولدِ ملكٍ عظيم.
وسواء كان موطن هؤلاء القوم بلاد الفرس أو الهند أو غيرها فلا شك أن الرحلة كانت شاقة والطريق وعرًا… أخذت قافلتهم تخترق الفيافي والقفار وتعبر الجبال والأنهار، في عزيمة جبارة وهمّة نفّاذة، تمرّ الأيام والليالي، وتختلف الشعوب والبلدان، وهم وسط السهول والهضاب، والأخطار والمخاوف، يولون وجوههم صوب الأمل المنشود.
نعم، صعوبات كثيرة قامت في طريقهم، لكنهم ضربوا بجميعها عرض الحائط. لم يتطرّق الوهن إلى نفوسهم، ولم يدبّ اليأس في قلوبهم، رغم أنهم سافروا زهاء السنتين حتى وطأت أقدامهم أرض أورشليم.
وقد أثار موكبهم فضول الناس واستغرابهم وبخاصة لأنهم يسألون: أين هو المولود الملك؟ وهكذا انتشرت إشاعة مولد الملك المنتظر في العاصمة، واضطربت أورشليم، وبلغت الأنباء مسامع هيرودس، فاضطرب هو أيضًا.
ما أمجدك يا مسيحي! فبمجيئكَ اهتزّت الأرض والسماء على حدٍّ سواء…
شدّ المجوس رحالهم مرة أخرى بعد خروجهم من عند هيرودس الماكر، والنجم يتقدّمهم حتى وصلوا إلى بيت لحم… قرية هادئة رابضة في بطن الوادي، تبعد عن أورشليم العاصمة قرابة ستة أميال إلى الجنوب لكن تمّ فيها القول: “وأنتِ يا بيت لحم، أرض يهوذا لست الصغرى بين رؤساء يهوذا، لأن منكِ يخرج مدبّرٌ يرعى شعبي.”
وصل المجوس إلى حيث كان الصبي يسوع، ولما استقرّ بهم المقام، خرّوا وسجدوا له، ثم فتحوا كنوزهم ليقدّموا هداياهم… قدّموا ذهبًا ولبانًا ومرًّا، وأصحاب مدرسة التفسير الرمزي، قالوا إن الذهب للمسيح الملك، واللبان للمسيح الكاهن الأعظم، والمرّ للمسيح النبي الذي سيموت عن خطايا البشر. ولا شكّ في أنها معانٍ سامية، فيها دروس جميلة وهامة لنا.
إلى هنا تنتهي قصة المجوس، ويبقى سؤالهم… “أين هو المولود؟” يبحث عن إجابة. وأخشى أن تكون الإجابة هي ما قاله يوحنا المعمدان: “في وسطكم قائم الذي لستم تعرفونه.” (يوحنا 26:1) وهل تتكرّر مسرحية إيجر هارت Eager Heart في حياتنا؟ والتي مؤدّاها أن فتاة فقيرة تُدعى إيجر هارت كانت تتوق من أعماق قلبها أن يكون الملك ضيفًا عليها في كوخها المتواضع ولو لليلة واحدة. وبعد أن جهّزت كل شيء عسى أن تتحقّق أمنيتها، وإذا برجلٍ عامل فقير ومعه زوجته، تحمل طفلًا… عليهم علامات التعب المضني من كثرة المسير وفي ثيابٍ رثّة، يقفون على بابها.
قال الرجل للفتاة: هل لي أن أرجوك أن تقبلينا ضيوفًا عندك الليلة؟ أجابته إيجر هارت التي هيّأت بيتها لزيارة مليكها: كلّا، ليس الليلة، بل أيّ ليلة ما عدا هذه الليلة. فأجابها الرجل في تودّد وألمٍ عميق: لقد تجوّلت في جميع جهات هذا البلد، وجميع الناس يقولون لي ما تقولين.
وهنا ذاب قلب الفتاة، وانحدرت الدموع على خدّيها، وسمحت لهم بالدخول وأخذت تقول بمرارة: الوداع أيها الأمل المنشود! الوداع! لن أستطيع أن أرى الملك في بيتي، وتأتي المفاجأة المذهلة بعد ذلك، عندما وجدت الفتاة مجموعة كبيرة من الناس يتجمهرون عند بابها يطلبون أن يروا الملك، واندهشت إيجر هارت وقالت لهم: لا بدّ أن هناك خطأ في العنوان، هذا مسكني الحقير الصغير، إنه لا يوجد هنا ملك. فأجاب المجوس الحكماء قائلين: “كلّا، إن الملك هنا في بيتك.”
ودخلوا البيت، وشاهدوا معهم الطفل الذي هو ملك الملوك، والذي قبلَته مع أبيه وأمّه، اضطرارًا. وفرحت فرحًا عظيمًا لأنها لم تطرد الملك السماوي، ولو رفضته لكانت قد رفضت أعظم بركة في حياتها.
أين هو المولود في بيوتنا؟ وفي جوانب حياتنا، لست أدري هل تغيّر الحال مع إنسان القرن الحادي والعشرين، أم فيه يتحقّق ما ذكره يوحنا البشير عن المسيح: “كان في العالم، وكُوِّن العالم به، ولم يعرفه العالم.” (يوحنا 10:1)
أو ما سطّره البشير لوقا وكأنه قد غمس قلم الألم في مداد المرارة ليسجّل في أسىً عميق (لوقا 7:2) “… إذ لم يكن لهما موضع في المنزل.”
أين هو المولود في احتفالاتنا بعيد ميلاده اليوم؟ لعلّه من الطبيعي عند الاحتفال بعيد ميلاد أيِّ شخص، أن يكون هذا الشخص موجودًا في الاحتفال… ولكن الغريب أن العديد من البشر يحتفلون بعيد ميلاد الرب يسوع دون أن يكون بينهم… فأين المُحتَفَل به؟
أين هو المولود؟ أين هو الرب يسوع؟ أين مكانه؟ هل عرفت أين السبيل إليه؟ وهل فتحتَ قلبك لتتويجه ملكًا عليه؟ هل اختبرته؟ هل استفدت من مولده وتجسّده لأجلك؟ هل دعوته ليسكن فيك ويقود حياتك؟ لست تحتاج أن تفتّش عليه، بل هو يناديك قائلًا: أين أنت؟ إنه قريب… يقرع على باب قلبك، ادعه فهو قريب، يقرع على باب قلبك، ادعه فهو قريب، وانتهز فرصة ميلاده، واقبله. إن فعلت هذا تسعد حقًّا بعيدَيْن عظيمَيْن، عيد ميلاد المسيح وعيد خلاصك وتحريرك من قيود الخطية.
شكرًا لك يا إلهي، أيّها الحبّ المتجسّد… فرغم أننا “كلّنا كغنمٍ ضللنا، مِلنا كلّ واحدٍ إلى طريقه”، لكنك بحثت عنّا، افتقدتنا كشعبك، وما زلت تفتقدنا كأفراد. لا يهون عليك أن نترك البيت أو نضلّ الطريق، ولا تهدأ حتى تجد الخروف الضال، وتضعه على منكبيك فرحًا. ولم تفتقدنا بالكلام واللسان، لكنك صنعت فداء لنفوسٍ عجزت عن السداد، لذلك جئتَ بنفسك لتصنع لنا خلاصًا أبديًّا. لقد نزلت قديمًا لشعبك حينما نظرت إلى مذلّتهم وسمعت صراخهم فأنقذتهم من أرض العبودية، بدم ذبائح، يُرشّ على العتبة العليا والقائمتين، وأرسلت لهم موسى قائدًا، لكنك اليوم جئت إلينا بنفسك، وصنعت لنا فداءً من عبودية الخطية، وأبدية الجحيم.
ليكن قلبي هو المذود الذي تتربّع عليه يا يسوع، عندئذٍ يرى الإنسان – أي إنسان – حبَّك من خلال محبّتي له. هذه صلاتي يا سيّدي في عيد ميلادك المجيد، آمين.