حينما دعت رفقة ابنها الأصغر يعقوب وطلبت منه أن يسرع بجديين من المعزى لتصنع أطعمة لزوجها إسحق يحملها إليه يعقوب مدّعياً أنه الابن الأكبر عيسو فيحصل على بركة أبيه الكفيف بالغش والخداع، كانت تريد من وراء ذلك أن تتعجّل تدابير الله مستعملة الحكمة البشرية الناقصة دوماً!
نحن نقرأ في الكتاب المقدس: ”وصلّى إسحق إلى الرب لأجل امرأته لأنها كانت عاقراً، فاستجاب له الرب، فحبلت رفقة امرأته. وتزاحم الولدان في بطنها، فقالت: إن كان هكذا فلماذا أنا؟ فمضت لتسأل الرب“. فقال لها الرب: في بطنك أمّتان. ومن أحشائك يفترق شعبان: شعب يقوى على شعب، وكبير يُستعبد لصغير“ (تكوين 21:25-23).
ونقرأ أيضاً عن عيسو أنه كان قد استهان بشعائر الرب حينما تخلى عن بكوريته فباعها ليعقوب أخيه بصحن عدس!!!
هذا كله صحيح، لكن الخديعة والاحتيال اللتان فعلهما يعقوب جعلاه يحصد عواقب وخيمة مؤلمة. فأخوه عيسو أصبح يفكر في قتله انتقاماً منه، والأمور الأخرى التي حدثت فيما بعد لم تكن بالقليلة في آلامها وصعوباتها. وقد قامت رفقة بتدبير أخير إذ تذمّرت أمام زوجها إسحق مما تعانيه من كناتها الحثّيات زوجات عيسو، وأوصت إليه أن يطلق يعقوب فيذهب إلى بيت خاله لابان فيما بين النهرين ويأخذ زوجة من هناك. فسار يعقوب رحلته وحيداً وبعد نهار مضنٍ، يقول الكتاب: ”وصادف مكاناً وبات هناك لأن الشمس كانت قد غابت. وأخذ من حجارة المكان ووضعه تحت رأسه، فاضطجع في ذلك المكان“ (تكوين 11:28). تلك كانت أولى مراحل ذلك العناء. فلا يوجد أحد من عبيد أبيه إسحق نام على هكذا وسادة! كان وحيداً هارباً محطّماً يقصد مكاناً بعيداً ولا يثق بأنه قادر على الوصول إلى هناك. ولنتأمل في وضعه ذاك وتلك الوسادة القاسية التي اضطر أن يسند رأسه إليها. فلا هي كانت من الريش ولا من الصوف أو القطن، ولا حتى من القش أو الخشب، بل كانت أحد الحجارة القاسية!
ولا ننسَ الوسادة التي نام عليها داود الملك بعد أن أخطأ بعلاقة غير مقدسة مع بثشبع امرأة أوريا الحثّي وتسبّب بقتل زوجها لكي يتخذها له زوجة! لقد جابهه ناثان النبي بالحقيقة الصارخة في وجهه: ”أنت هو الرجل.. لماذا احتقرت كلام الرب لتعمل الشر في عينيه؟ والآن لا يفارق السيف بيتك إلى الأبد“.
إن تلك الوسائد كانت أقسى جداً من أن يتوسّدها ملك مؤمن بالرب وقد قال الله فيه: ”وجدت قلب داود ابن يسّى رجلاً كقلبي الذي يصنع كل مشيئتي“.
ربما يتساءل أحدنا: طالما أن الله كان يريد أن يبارك يعقوب، وطالما أحبّ داود ومدحه، فلماذا سمح أن تجري في حياتهما تلك السقطات التي تسببت بالخزي والألم؟! ولماذا لم يردع الرب أتقياءه ويعصمهم عن الخطأ لئلا تصيبهم مثل تلك البلايا؟ وماذا يعني كل ذلك للباحث المدقّق في هذه الأمور؟
لا شك أن كلمة الله تطلعنا على أحداث وذكريات مؤلمة كثيرة أصابت رجال الله المؤمنين بسبب أخطائهم وتعدياتهم، وتلك يجب ألا ننسبها إلى الله بل إلى الذين تعدوا وصية الله لأنه مكتوب: ”إن الله غير مجرب بالشرور وهو لا يجرب أحداً“.
ولكننا نجد لها كثيراً من التفسيرات، منها:
– ضعف النفس البشرية
– والحرية التي منحها الله كاملة
– وعدم الالتزام والتدقيق
– والسماح من الرب لكي يظهر عدم كمال البشر بل كمال الرب يسوع وحده.
هنالك الكثير من الوسائد القاسية في حياة الجسد، وكثيرون يتسببون لأنفسهم بتوسد واحدة منها أو أكثر؛ ومنها المرض، والحزن، والفقر، والخوف، والعداوة، والاضطهاد، والشعور بالوحدة أو الترك، وهي تسبب آلاماً مختلفة في النفس.
آلام بسبب ذكريات الماضي
على ذلك الحجر تحركت ذكريات يعقوب لأحداث الماضي، وتذكّر كيف طمع على أخيه عيسو حينما كان آتياَ من الحقل جائعاً معيياً فلم يعطه صحناً من العدس إلا بعد أن باعه البكورية! ودارت في ذهنه أحداث المسرحية الأخيرة يوم موّهته أمّه بجلود الماعز لكي يخفي حقيقة شخصيته ويخدع أباه الضرير فيحصل على البركة – ونحن كم تحضرنا الآن ذكريات من الماضي عن أوضاع وسقطات وظروف مررنا بها تضع دمغتها الواضحة على نفسياتنا وتفكيرنا؟ وكم تؤلم مشاعرنا تصرفات أو كلمات تفوّهنا بها ضد أهل بيوتنا أو ضد الآخرين، ولا نستطيع أن نمحو أثرها ولا سيما التصرفات التي كانت ضد مشيئة الله؟!!!
آلام بسبب أوضاع الحاضر
كانت وحدة يعقوب في ذلك الليل وبُعده عن أهله وأخيه مؤلمة، فليس حوله إلا الحجارة الصلبة ولا تسمع أذناه إلا صفير الرياح وعواء الذئاب… وصوتٌ في داخله يجلجل: غشّاش!! محتال!!
وعن داود: ”وأما داود فصعد في مصعد جبل الزيتون. كان يصعد باكياً ورأسه مغطى ويمشي حافياً“ (2صموئيل 30:15).
آلام بسبب توقعات المستقبل
لم تكن تلك الآلام أخفّ وطأة من ذكريات الماضي وأوضاع الحاضر. فيعقوب لم يكن يتوقع أن تتيح له الظروف أن يعود إلى البيت الذي تربّى فيه… كل شيء بدا أمامه للوهلة الأولى مظلماً قاتماً، ولم يرَ أي نور في نهاية النفق!
إلا أن حدثاً فريداً برز أمامه فغيّر الأمور وقلبها رأساً على عقب. لقد تُرك من الجميع في يأسه وضيقه، ولكن هناك من ظهر له أنه الصخر الكامل صنيعه! لقد أراه الله حلماً لطيفاً معبّراً، ثم تكلم إليه مشدداً ومقوّياً: ”ورأى حلماً، وإذا سلّم منصوبة على الأرض ورأسها يمسّ السماء، وملائكة الله صاعدة ونازلة عليها وهوذا الرب واقف عليها…“ (تكوين 12:28-15). ونرى في تلك الرؤية:
أ- إله العفو والمغفرة
ما من شك أن يعقوب نظر إلى الله في ضيقه ونفسه مليئة بالحزن والأسى على ما بدر منه.
ناهيك أيضاً عن توبة داود وحزنه العميق على ما بدر منه، فنحن نقرأ: ”لأن آثامي قد طمت فوق رأسي. كحمل ثقيل أثقل مما أحتمل. قد أنتنت. قاحت حبر ضربي من جهة حماقتي. لويت. انحنيت إلى الغاية. اليوم كله ذهبت حزيناً… كنت أئن من زفير قلبي“ (مزمور 4:38-8). وأيضاً ”تعبت في تنهدي، أعوّم في كل ليلة سريري بدموعي. أذوّب فراشي“ (مزمور 6:6).
ونحن نرى أن جواب الله كان بالمغفرة. ورغم أن الله يغفر الخطية من الناحية الروحية، ولكن لا ننس بأن كل إنسان يدفع نفقة خطيته جسدياً تبعاً لعدالة الله وصلاحه.
ب- إله المواعيد الصادقة
فمع عبارات التشجيع التي سمعها يعقوب في ضيقه، فقد وعده الله بدوام عنايته ورفقته له وحقق جميع وعوده. فهو وعده بامتلاك الأرض التي كان مضطجعاً عليها وبالبركة على نسله الذي يكون كثيراً كتراب الأرض، ولا شك أن نسله المقصود في العبارة الأخيرة هو المسيح الذي جاء من نسل يعقوب حسب الجسد.
ج- الإله الذي يبقى أميناً على مواعيده
”لأن هبات الله ودعوته هي بلا ندامة“ (رومية 29:11)؛ وأيضاً ”إن كنا غير أمناء فهو يبقى أميناً لن يقدر أن ينكر نفسه“ (2تيموثاوس 13:2).
قارئي العزيز،
لئن تكن تعاني من وسادة قاسية وتشعر بأنك تواجه الصعوبة التي أنت فيها وحيداً… تأكد أن هناك أباً حنوناً يعطف ويترأف إن كنا نقترب إليه بالإيمان وبقلب صادق ونضع نفوسنا المتعبة بين يديه. فهو بالتأكيد لن يخيّب رجاءك ولن يخذلك أبداً.