غالبية كتاباتي المتواضعة كما يُلاحظها القراءُ الكرام تندرج تحت عنوان “دفاعيات”. فأنا أعيش في بيئة ألمسُ فيها بين حينٍ وآخر ملامح التحدّي والتنكُّر لما نؤمن به.
إنجيل المسيح أيها السادة، إنجيل وحيٍ مصون من رب العباد، فلا تبديل لكلمات الله، ولا تزييف أو تحريف له، لأن الله – وهو أصدق القائلين – يقول: “لأني أنا ساهر على كلمتي لأجريها.” (إرميا 12:1)
ويقول: “لا أنقضُ عهدي، ولا أُغيِّرُ ما خرج من شفتيَّ.” (مزمور 34:89) بمعنى، لا أنسخُ ولا أبدلُ ما نطقت به شفتاي! هذا إنجيل ربّى أجيالًا على الحق ومبادئ الصدق والأمانة وحبّ الناس أيًّا كانوا…
إنجيلٌ انتشلَ شعوبًا كانت غارقة في ظلمات الوثنية، وهي اليوم في طليعة الشعوب المتحضّرة بعد أن استُنيرتْ بما غرسه الإنجيل فيهم من مبادئ سامية. وفي وصوله لهؤلاء، لم يحمل عليهم سيفًا أو رمحًا، ولم يُجرّد جيشًا ليُرغمهم على ما نادى به، بل خاطبهم بالكلمة الهادئة، فغرس فيهم بذور حضارات إنسانية انبثقت منها مبادئ الحرية والديمقراطية واحترام حق الإنسان في العيش الكريم.
الإنجيل علَّم ويُعلِّم أن الصدق أفضل من الكذب، وأن الإخلاص في العمل أفضل من الاسترخاء والتكاسل، وأن حبّ الناس أفضل من معاداتهم، وأن المرونة والانفتاح على الآخر أفضل من الانغلاق والتباعد عنه، وأن السماحة أفضل من التعصّب، وأن قبول الآخر أفضل من تكفيره، وأن مشاركة الآخرين في أفراحهم وأحزانهم، وجواز تهنئتهم في أعيادهم ومناسباتهم أفضل من مجافاتهم!
والمسيحيون على اختلاف طوائفهم، وتعدّد شعوبهم، انطبعت سمات إنجيلهم هذه في حياة وسلوك من التزم منهم بمبادئ الإنجيل. أقول “من التزم”، فشكّل هذا لونًا مميزًا في مسلكياتهم، والآخرون يشهدون بذلك ونسمعهم يردّدونه باستمرار.
أما التحريف الذي يُشغلُ بال البعض من مواطنينا، فإلى قارئي الكريم ما نعرضه للتفكّر به:
أولًا: سبق أن أجرينا مقابلات عشوائية وسط مجموعة من أفرادٍ رسخت لديهم فكرةُ التحريف، فوجّهنا لكلٍ منهم على انفراد سؤالًا مُحدّدًا يقول: كيف توصّلت إلى القناعة بأن الكتاب المقدس مُحرّف؟
فجاءت إجاباتهم متشابهة إلى حدٍّ كبيرٍ تتلخّص في أن هكذا يُشاع، وهكذا سمعنا، وهذا ما تعلمناه منذ الصغر في مدارسنا، ومن معلمينا، وفي بعض مناهج دراساتنا الدينية، فرسخت الفكرةُ في أذهاننا!
نحن في بلدان العالم الثالث ما زلنا نصرُّ على أنْ لا نعتمد الأسلوب العلمي في الحُكم على الأشياء، فنأخذ الشائعة كما هي وننقلها للغير، سواء اقتنعنا بها أم لم نقتنع، فللشائعة دائمًا موسيقى عذبة تشدّنا إليها. وهذا عيب تزاوجنا معه يصعبُ الطلاق منه.
ثانيًا: إنجيلنا يا صديقي كان قد وُزّع وانتشر حيثما انتشرت المسيحية في بقاع الدنيا، وتُرجم بلغات الشعوب التي وصلت إليها، ومنها اليونانية والرومانية والآرامية السريانية، والأرمنية، والتركية، والكردية، والقبطية، والعربية ولغات شعوب شمال أفريقيا على تعدّدها… وغيرها.
ثم بعد حوالي ستمائة سنة جاء الإسلام وشهد للتوراة والإنجيل بأنهما ذكر من عند الله، وحثّ أتباعهما أن يُقيموا ما جاء بهما، ولم يُشرْ إلى التحريف في شيء، مما يعني أن حتى ظهور الإسلام لم يكن تحريف… فكيف يمكن أن يحدث التحريف في وقت كانت نسخ الكتاب المقدس بعهديه من توراة وإنجيل قد ازداد انتشارها بلغات أخرى وصلت إليها المسيحية؟! لأن المسيحية مستمرّة بالتوسّع طاعة لأمر الرب الذي قال: “اذهبوا إلى العالم أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها.” فمن أراد أن يُحرّف شيئًا، كان عليه أن يجمع كل النُسخ المتداولة في العالم بكل لغاتها، وبعد أن يُحرّفها على مزاجه، عليه أن يُعيد توزيعها على أصحابها في شتى الأقطار والبلدان! فهل في هذا من منطق؟! وكيف يمكن أن يحصل؟ وإن حصل، لِمَ لمْ تبقَ ولو نسخة واحدة وحيدة غير مُحرّفة يُلوِّحُ بها إنسان ليكشف اللعبة المفترضة!
ثالثًا: في المسيحية يا صاحبي، طوائف متعددة… أرثوذكس، وكاثوليك، وإنجيليون، وأقباط، وسريان، وموارنة، وكلدان، وغيرهم. وكل طائفة مستقلة في شؤونها عن غيرها، ومع ذلك فكتابهم المقدس كتاب واحد، وأركان عقيدتهم واحدة، وإلههم واحد، فكيف يتّفق كل هؤلاء على الحرام ليزوِّروا كتابًا آمنوا به دون أن يقوم أحد من بينهم ليرفع صوته عاليًا بالاحتجاج والتشهير بعملية التزوير؟! أين المنطق في هذا؟!
رابعًا: سجل التاريخ أصنافًا من المآسي والاضطهادات الدينية التي واجهت المسيحيين منذ ألفي عام، والملايين منهم ماتوا استشهادًا بسبب ارتباطهم بإنجيلهم وولائهم لمسيحهم… فمن ارتضى أن يموت شهيدًا ولا يُنكر إيمانه، فكيف به أن يقبل بتحريف كتابه الذي بنى عليه عقيدته؟! وكيف يهدم الأساس الذي ارتكز عليه في علاقته بربّه؟! ما مصلحته في ذلك؟! ثم هل حاول في تحريفه أن يُبعد ما استثقل تطبيقه مثل قول الإنجيل: “أحبوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم، أحسنوا إلى مُبغضيكم” (متى 44:5)؟
ومثل قوله: “إن جاع عدوّك فأطعمهُ. وإن عطش فاسقه.” (رومية 20:12) لماذا لم يُحرّف مثل هذه المبادئ التي يستثقلها البعض، ليضع بدلًا منها كما يلي: – من اعتدى عليك فاعتدِ عليه بمثلها، واكسر عنقه ولاشِ وجوده!
خامسًا: قد يختلف الناس في وجهات النظر في أي شيء يطرحونه للبحث، وكل له الحق في التعبير عن رأيه، إنما السؤال الذي لا بدّ منه: لماذا يصل الأمر بنا أن نزُجّ بكتب الوحي في حلبة الصراع، ونُمعنُ فيها تشويهًا وتكذيبًا، ثم نقول إننا نؤمن بكتب الله ورسله؟!
ولماذا يكون الله هو موضوع خلافاتنا، وكتبُ وحيه هي سببُ صراعاتنا ومجادلاتنا، التي إن هدفت لشيء، إنما تهدفُ لتشويه صورة الوجه الآخر؟!
ولما لا يكتفي كل منا بمياه بئره الذي يستقي منه، فلا يرمي حجرًا في بئر جاره؟!
سادسًا: دعوى التحريف هذه يتقابل فيها فريقان: فريق يدّعي التحريف، وفريق مُدَّعى عليه.
الفريق الأول يُقدّم فرضيّة غير مُوثقة، تفتقر لمنطق الادعاء، فلا دليل واحد تقبله العدالة يؤكد ادعاءه، وكل ما يقدمه لا يخرج عن كونه مُجرد كلام يتطاير في الهواء، إذ لا غاية منه سوى التشويش على الطرف الآخر،
أما الفريق الثاني فيقدم الوثائق الدامغة من مكتشفات أثرية تؤكد صحة نبوات عديدة وردت في أسفار التوراة وأسفار أنبياء اليهود المعتمدة في كتب العهد القديم، وهناك مكتشفات قمران وشهادات مؤرخين يهود ورومان، وثائق أثرية بالآلاف تشهد على صحة وسلامة أسفار الكتاب المقدس بعهديه، العهد القديم والعهد الجديد، مما يُفندُ دعوى الفريق الآخر ويُبطلُ ادعاءه.
ورغم ذلك يستمر المدّعي يُلوحُ بما ادّعاه بلا دليل، والبعضُ يُصفقُ له، لأن المنطق السليم، والأسلوب العلمي الصحيح، والعدالة في الحكم، عناصر مُغيبة.
ويُطلُ رئيسُ المحكمة العليا من علياء سمائه، ليُؤكد حكم البراءة لأهل الكتاب، ويقول لهم: “إلى أن تزول السماء والأرض، لا يزول حرف واحد أو نقطة واحدة من الناموس.” (متى 18:5) ويقول: “لأني ساهر على كلمتي لأجريها.” (إرميا 18:1) و”طوبى لكم إذا عيَّروكم وقالوا عليكم كل كلمة شريرة من أجلي كاذبين، افرحوا وتهللوا لأن أجركم عظيم في السماوات.” (متى 11:5)
أما عملية التحريف لو افترضنا أنها حصلت، فهي عمليه شيطانية دون شك، فلو استطاع إبليس أن يقوم بها لنسَخَ ودمَّرَ كل المبادئ النبيلة التي تحويها صفحات الإنجيل الكريم، ليغرس بدلًا منها ما يُشجّعُ على البغضاء والعدوان وردّ الأذى بالأذى وإباحة المحرّمات والإرهاب وسفك الدماء وحشد الجيوش وإلى غير ذلك من مفردات الشرّ.
لكن من عرف هويّة المسيح ينقشعُ الضبابُ أمام عينيه، وتزول الحواجزُ التي تمنعُ الرؤيا، فيُدركُ الحقيقة في نور شمسٍ ساطعة، ولن تفوته صحةُ سلامة إنجيله… وإلا فالأبدية قادمة لا محالة، وستكشف لمدّعي التحريف جسامة الخطأ الذي وقع فيه وعظم البركة التي فاتته، وليتهم يُدركون!