الميلاد ويوسف النجار
أتحدّث معكم عن شخصية قد تكون منسيَّة من كثيرين؛ شخصية يوسف النجَّار خطيب المطوّبة مريم العذراء،
الذي يذكر الوحي المقدس عنه قائلًا: “فيوسف رجلها إذ كان بارًا…” (متى 19:1)
في الوقت الذي تمّت فيه خطبة مريم ليوسف النجار، كان الزواج اليهودي يتمّ على ثلاث مراحل: في المرحلة الأولى يتمّ الاتفاق بين الأسرتين على الارتباط، والمرحلة الثانية هي مرحلة الخطبة؛ ويتمّ فيها إعلان أو إذاعة الاتفاق علنًا. وبهذه الخطوة يصبح الخطيبان مرتبطين برباط لا ينفصم إلا بالموت أو بالطلاق، وتبقى الفتاة في بيت أهلها. أما المرحلة الثالثة فهي إتمام الزواج وترك الفتاة لبيت أهلها وانضمامها إلى بيت زوجها.
وبالنسبة إلى مريم، عندما وُجدت حُبلى من الروح القدس كانت مخطوبة في المرحلة الثانية، مرحلة الارتباط الذي لا ينفصم، لذلك جاءت الصدمة قويّة وشديدة على يوسف الرجل البار، الذي أحبّ مريم وأخلص لها عندما أخبرته بأنها حُبلى من الروح القدس.لم يصدِّق كلامها وروايتها عن ظهور الملاك لها، وظنها تراوغ وتخدعه لتغطية خيانتها… وملأ الشك قلبه وفكره، وراح يقلِّب وجه المجن، وأصبح محتارًا من جهة القرار الذي سيتّخذه مع مريم، لقد واجه يوسف موقفًا صعبًا، وكان أمامه اختيارين:
الاول- إما أن يطلّق مريم سرًّا وبهدوء.
الثاني – أو أن يسلّمها للرجم بحكم الشريعة.
(تثنية 23:22-24) «إِذَا كَانَتْ فَتَاةٌ عَذْرَاءُ مَخْطُوبَةً لِرَجُلٍ، فَوَجَدَهَا رَجُلٌ فِي الْمَدِينَةِ وَاضْطَجَعَ مَعَهَا، فَأَخْرِجُوهُمَا كِلَيْهِمَا إِلَى بَابِ تِلْكَ الْمَدِينَةِ وَارْجُمُوهُمَا بِالْحِجَارَةِ حَتَّى يَمُوتَا. الْفَتَاةُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهَا لَمْ تَصْرُخْ فِي الْمَدِينَةِ، وَالرَّجُلُ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ أَذَلَّ امْرَأَةَ صَاحِبِهِ. فَتَنْزِعُ الشَّرَّ مِنْ وَسَطِكَ.
وفي حيرته، يتدخّل الرب بسرعة فيرسل ملاكه ليشرح له حقيقة الأمر ويؤكّد له براءة مريم وطهارتها وصدق روايتها. “ولكن فيما هو متفكّرٌ في هذه الأمور، إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم” ليعلن له البشارة المفرحة والخبر السار.
ونتوقّف هنا لنذكر بعض الأفكار حول موقف يوسف من ميلاد السيد المسيح:
اولا: الله يعلن سرَّه لخائفيه: فلا يتركنا في قلق وحيرة أو مخاوف خاصة، إن كانت دوافعنا مقدسة، فماذا يفعل الرب معنا؟
أ) يساعدنا لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب. “ولكن فيما هو متفكِّر في هذه الأمور، إذا ملاك الرب قد ظهر له في حلم.”
ب) عندما تُسَدّ الأبواب أمامنا ولا نجد بدائل لحلِّ مشاكلنا، نجد عند الرب الحلّ البديل الذي لا يخطر على بال. “لا تخفْ أن تأخذ مريم امرأتك.”
ج) بل أكثر من ذلك، يشجّعنا ويعطينا الأمان والسلام والاطمئنان للتنفيذ “لا تخفْ”:
إن الله لا يتركنا في شكوكنا وحيرتنا إن كانت نابعة من دوافع مقدسة، كما حدث مع توما عندما شكّ في قيامة المسيح، فظهر له وأزال شكوكه وأكّد له حقيقة القيامة.
ثانيا: المحبة تستر كثرة من العيوب والخطايا
“فيوسف رجلها إذ كان بارًّا، ولم يشأ أن يشهرها، أراد تخْلِيَتها سرًّا.” وببساطة فإن معنى هذه الآية هو أن يوسف، لأنه رجل صالح وبار لا يرغب أن يشهِّر بها أو يفضحها بل أراد أن يطلّقها سرًّا وبهدوء.
الإنسان الصالح والمؤمن الأمين يستر عيوب وأخطاء الآخر، لا يشنّع أو يذيع مذمة أحدٍ ولا يفضح المستور، ولا يذمّ، ولا ينمّ، بل يُصلح بروح الوداعة والمودّة، لا بروح الانتقام أو الانتقاد. يعالج المشاكل في صمت وهدوء، لأن المحبة تستر كثرة من الخطايا. “أيها الإخوة، إن انْسبَقَ إنسانٌ فأُخِذَ في زلّةٍ ما، فأصلحوا أنتم الروحانيين مِثْلَ هذا بروح الوداعة.” (غلاطية 1:6) ويقول الرسول يعقوب: “لا يذُمَّ بعضكم بعضًا أيها الإخوة. الذي يذُمُّ أخاه ويدين أخاه يذُمُّ الناموس… واحد هو واضعُ الناموس، القادرُ أن يخلِّص ويهلك. فمن أنت يا من تدينُ غيرَك؟” (يعقوب 11:4) “فلنتمسّك بقولِ الرب على فم الرسول بولس عندما قال: “كلُّ ما هو حقٌّ، كلُّ ما هو جليلٌ، كلُّ ما هو عادلٌ، كلُّ ما هو طاهرٌ، كلُّ ما هو مُسِرٌّ، كلُّ ما صيته حسن، إن كانت فضيلةٌ وإن كان مدحٌ، ففي هذه افتكروا.” (فيلبي 8:4)
ثالثا: الطاعة الفورية تخضع للإعلان الإلهي
“فلما استيقظ يوسف من النوم فعل كما أمره ملاك الرب، وأخذ امرأته.” (متى 24:1)
كان لديه الاستعداد الكامل لقبول مشيئة الرب وإطاعة صوته فورًا مهما كلَّفه الأمر، كما كان لمريم ذات الاستعداد إذ قبلت مشيئة الرب بكل خضوع قائلة للملاك: “ليكن لي كقولك.”
بدون شك، كانت طاعة يوسف الفورية للرب طاعة مكلّفة: كلّفته كلام الناس، والسخرية، وقد تكون كلّفته مقاطعة الزبائن له في دكان النجارة، واحتقار أهله له. لكنه لم يعبَأ بكل هذا لأنه “ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس.” ومع أن طاعته لله كانت مكلِّفة لكنها كانت امتيازًا عظيمًا له أن يعيش يسوع المخلص المبارك، ربّ المجد، معه في بيته ويساعده في دكان النجارة، ويشاركه مهنته.
إن إطاعة صوت الحق، ورسالة الله، والخضوع للرب قد يكون فيها تكلفة وتضحية وتحمّل الآلام أو الاضطهاد، أو خسارة مادية، أو مقاطعة من الأهل والأصدقاء وتخلّي الآخرين عنا، لكن لنذكر قول داود: “إن أبي وأمي قد تركاني والرب يضمني.”
ونتيجة لطاعتنا للرب قد نخسر العمل أو نُطرد من الوظيفة أو أن نُحاصَر اقتصاديًّا أو تعطَّل مصالحنا، لكن مهما كانت التضحية والتكلفة فهي لا توازي ولا تقاس بالامتيازات التي لنا في المسيح يسوع، وتحقيق مواعيده العظمى معنا، والأمجاد السماوية التي تنتظرنا. قال الرسول بولس: “فإني أحسب أن آلام الزمان الحاضر لا تُقاس بالمجد العتيد أن يُستعلَن فينا.”
رابعا: المحبة تَسْنِد في الأزمات
المحبة تساند الضعفاء… ما أروع وأنبل موقف يوسف الذي وقف بجوار مريم ولم يتخلَّ عنها في فترة الحمل التي بدون شكّ كانت مؤلمة جدًا بالنسبة له ولمريم، والتي فيها واجها تحدِّيات عديدة وقد صمدا أمامها… لم يتخلّ يوسف عنها في ساعات الوضع الأليمة. سار معها جنبًا إلى جنبٍ في طريق الهروب إلى مصر من وجه هيرودس الطاغية… كان يوسف يحبّ مريم محبة حقيقية رائعة.
المحبة الحقيقية تسند الآخرين وتساعدهم في أزماتهم المختلفة وتشدّدهم في ضعفهم. تسدّد لهم احتياجاتهم، وتصحّح لهم أخطاءهم، وتصلّي لأجلهم في آلامهم، وتضحّي لأجلهم. تعطي ولا تنتظر أن تأخذ، لا تطلب ما لنفسها بل للآخرين… محبة تسير المِيلَ الأول والثاني والثالث… لا تغفر إلى سبع مرات فقط بل إلى سبعين مرة سبع مرات.
ما أروعك يا يوسف! رجل ذو قلب كبير، مملوء بالحب والحنان، رجل بارٌّ وصدّيق… فانظروا إلى سيرتهم وتمثَّلوا بإيمانهم
. https://ftp.vopg.org/magazine/2019/dec-2019/3615-2019-12-04-17-07-10.html