منذ نشوء المسيحية وحتى هذا العصر تعرّضت المسيحية لتحديات كبيرة رهيبة، بعضها خارجية، والبعض الآخر من خلال تيارات داخلية حاولت أن تعصف بكيانها، وتهدم صرحها. ولكن المسيح قد وعد أن يحافظ على كنيسته ضد هجمات إبليس وأعوانه. فقد وعد أن يبني كنيسته على صخرة الإيمان به وأن أبواب الجحيم لن تقوى عليها. ”وأبواب الجحيم“ عبارة رمزية لكل قوى الشر المتجمعة ضدّ الكنيسة في مختلف العصور، لا فرق في ذلك إن كانت هذه القوى سياسية، أو عسكرية، أو عقائدية ملحدة، أو دينية، فإنها جميعها، على مختلف أشكالها استهدفت غاية واحدة هي القضاء على المسيحية، بل على حقيقة شخص المسيح.
فاليهود في زمن الرسل، بل منذ أن شرع الرب يسوع في نشر رسالته ودعوته، حاولوا بكل وسيلة ممكنة أن يهدموا تعاليمه، وادّعوا أنه يُجري معجزاته بسلطة شيطانية؛ بل أكثر من ذلك قبضوا عليه وأهانوه ثم صلبوه، وظنّوا أنهم تخلّصوا منه إلى الأبد. ولكن ذلك المصلوب الذي جاء اختياراً إلى هذا العالم، ليفتدي الإنسان من عبودية إبليس، قام من القبر في اليوم الثالث، منتصراً على جميع قوى الشر التي تآزرت ضدّه، واقتحم حصون الشيطان ظافراً بكل أعدائه.
وبعد صعوده إلى السماء، بذلت السلطات الدينية كل جهد ممكن أن تخرس أصوات تلاميذه وأن تمنع التبشير باسم مخلص البشرية، فاضطهدوهم، وألقوا بهم في السجون، وضربوهم، وقتلوا منهم من قتلوا، وشتّتوا كنيسة أورشليم، ولكن الكنيسة لم تمت، ولم تتوقّف عن الكرازة باسم المسيح، بل انتشرت في جميع أرجاء العالم القديم أولاً، ثم على مرّ العصور ذاعت في أرجاء المعمورة.
وعملت الدولة الرومانية ومن دار في فلكها على التنكيل بالمسيحيين في فترات مختلفة، فهدمت كنائس، وأحرقت أتباع المسيح، وجعلت بعضاً منهم طعاماً للوحوش الضارية، ولكن المسيحية ما لبثت أن غلبت على الدولة الرومانية؛ وما أن جاء القرن الرابع حتى اصطبغت الدولة الرومانية بالصبغة المسيحية، فأخذت تلك القوى المضطهِدَة تتراجع أمام المدّ المسيحي.
وفيما تلا من عصور، قامت دول جديدة تحمل سمات ديانات جديدة تضافرت قواها الدينية والسياسية والعسكرية على استئصال المسيحية أو تقزيمها، وتجريدها من فاعليتها ولا سيما في الشرق الأوسط، وفي شمال أفريقيا وغيرها من البلدان، ولكنها كلها باءت بالفشل، وتابعت المسيحية سيرها على الرغم من كل اضطهاد، وعرقلة، بل إن النهضات لم تقم إلا في خضمّ الاضطهادات، فصمدت في وجه التيارات العدائية وأثبتت وجودها في الشرق والغرب.
وأعقب ذلك قيام دول ملحدة أقسمت على القضاء على هذا الدين القديم بأي ثمن، وأخذت تنشر عقائدها في أوساط الشعب إما بالحسنى والإغراء، أو القوة والاضطهاد. وخيّمت ظلال الرعب على البلدان التي خضعت للنظام الشيوعي أو ما يماثله وإن اختلفت أشكاله وأنظمته. ولكن ما لبثت هذه الأنظمة أن انهارت، وبقيت المسيحية كدين راسخة، وعجزت هذه القوى التي تألّبت عليها عن اجتثاثها من جذورها.
والمتأمل في أسباب هذه الاضطهادات والحروب الشعواء على المسيحية يجدها تتلخّص بموضوع تجسّد المسيح وموته على الصليب وقيامته؛ أي إن محور هذه الاضطهادات هو شخص المسيح بالذات. والمسيح في المسيحية هو مركز الثقل. فليس هناك من دين آخر يتمركز حول شخصيته إلا المسيحية. فلا مسيحية من دون المسيح، ولا رجاء ولا خلاص، ولا انتصار، ولا حياة أبدية من غير حقيقة القيامة. وهذا الواقع يعود بنا إلى التحدي الكبير الذي يواجه الكنيسة في القرن الحادي والعشرين.
إن هذا التحدي لا يقوم على إعلان حرب شعواء، ولا على اضطهاد ديني يخضع المسيحيين للتعذيب، وإن كانت بعض البلدان غير المسيحية ما زالت تنكل بأتباع المسيح، وتعذّبهم، وتشرّدهم، وتهدم كنائسهم، وتدعوهم بالكفار، إنما هذا التحدي مبنيّ على قواعد منظمة تعتمد على ما يدّعونه بالعلم، والموضوعية، وتخضع لنظريات وفرضيات اجتهد أصحابها في إعدادها وتطويرها لإثبات أن العقيدة بقيامة المسيح والإيمان بها هما ضرب من الأوهام بناء على ما يزعمون أنه اكتشاف أو اكتشافات أثرية تثبت بأن المسيح مات ودُفن ولم يقم من الأموات كما يتبجّح المسيحيون.
إن الأدلة التي يلجؤون إليها، كما يبدو لي، هي فرضيات وتأويلات يستهدفون من ورائها التشكيك بنصوص الكتاب المقدس والوحي الإلهي، مغفلين شهادات شهود العيان من تلاميذ المسيح وسواهم مما زاد عددهم عن خمس مئة شخص كما ذكر الرسول بولس. وتناسوا أن آلافاً من الشهود في العصور الأولى من تاريخ الكنيسة ومن جملتهم رسل المسيح – باستثناء يوحنا الحبيب – قد استشهدوا بفضل إيمانهم. فهل كان هؤلاء قد ضحوا بحياتهم في سبيل كذبة وخدعة؟
ولست هنا أسعى للخوض في موضوع مناقشة مكتشفات الآثار ودحض أقوال الناكرين منهم قيامة المسيح. إنني أترك هذا لعلماء الآثار المسيحيين الذين هم أكثر خبرة مني، من أصحاب الاختصاص في هذا العلم الرفيع. في وسع هؤلاء أن يردوا على ادعاءات المعارضين لقيامة المسيح؛ وفي إمكانهم تفنيد أقوالهم بناء على التحليل والمنطق، والأدلة المجردة من الأغراض الخاصة.
أما أنا، فإنني أميل في استنكاري للزاعمين بأن المسيح لم يقم من الأموات على أسس شهادة الكتاب المقدس والوحي الإلهي، وإقرارات شهود العيان الذين أشار إليهم كتاب الوحي. وإنني أربأ بأي مؤمن واحد أن يستعيذ بالكذب لكي ينفّذ مآرب خسيسة لا تجديه نفعاً. إن شهداء المسيحية منذ زمن الرسل إلى الوقت الحاضر هم أبلغ دليل على صدق دعوى القيامة.
نعم، إن حرب القرن الواحد والعشرين هي حرب عقائدية تستهدف استنزاف عقول المؤمنين والتشكيك بعقائدهم. إن هذا اللون من الاضطهاد هو أشدّ أنواع التعذيب النفسي والعقلي لأنه يعمل على تعكير صفاء الإيمان المسيحي ويولّد قلقاً لدى النفوس الضعيفة من المؤمنين. لهذا أقول:
على أبناء الكنيسة من علماء موضوعيين، وخبراء في العلوم والآثار أن يعالجوا هذا الموضوع معالجة جذرية لا تقوم على التعصّب الديني، ولا على الإيمان العاطفي بل على الدرس المتعمّق، والتأمل الصابر، لكي تظهر الحقيقة ناطقة بالواقع، مجرّدة من التحيُّز.
يؤكد لنا الكتاب المقدس أن القيامة هي واقع، وأن الإيمان بها هو حقيقة، وأنها سبب الرجاء الموضوع أمامنا في انتظار مجيء الرب ثانية. فاثبت يا أخي في المعركة، لأن النصرة لا بدّ منها.