أيهما أنفع: حوار بالحسنى أم قسوة في الجزاء؟

المعتقدات الدينية أياً كانت ليست منزهة عن الحوار أو التساؤل أو الاستفسار، ولا حتى عن المجادلةِ أو التشكيك، بل وأحياناً تتعرّض الأديان للرفض من بعض مَنْ يُنْتَسَبون إليها. فالذين يضعون العقائد الدينية في صندوق فولاذي مقْفل، لا يجوز التشكك فيها أو التحاور حولها، فذلك يندرج تحت عنوان الإرهاب الفكري، وكبت الأنفاس، وخنق الحرِّيات. فالله لم يتعامل يوماً مع الإنسان بهذا الأسلوب، ولم يُجْبر الإنسان على الإيمان به، ومن كفر بالله لا يمنع عنه الهواء، أو يقص لسانه أو يعمي عينيه، فهو أعطى الإنسان الحرية منذ بدء الخليقة في أن يقبل ما يوصي به أو يرفض، فقال لآدم، لك أن تأكل من جميع شجر الجنة كما تشاء، وهذه الشجرة في وسط الجنة لا تأكل منها، فإن أكلت منها سيسري عليك حكم الموت. فهو سبحانه أعطى آدم ونسله من بعده الحرية في اتخاذ القرار وحمَّله مسؤولية مخالفة وصاياه، والجزاء غير فوري، فعندما أُغوي آدم ومدَّ يده إلى الشجرة المحرمة لم يقطع يده، ولم يقلع عينه أو يبتر رجله ليبعده عنها بل تركه يتخذ قراره بحريته ويتحمّل مسؤولية العقاب. وكان أن طُرد من الجنة ولن يعود إليها إلا بعد تصفية الحساب ويأتي من يدفع الثمن!

والكثيرون اليوم عاكسوا أسلوب الله في التعامل مع المُخطئين من يتعدَّون شرع الله فأنزلوا فيهم القصاص الفوري بلا هوادة، ونسوا أو تناسوا أن الله أقام يوماً فيه سيدين سرائر الناس في من خرج على رأيه أو خالف شرائعَهْ. لقد وقع المسيحيون في وقت من الأوقات في مثل هذا الخطأ وتعلموا الدرس وتفادوه.

وعليه ففي المسيحية الحقة: الذين يخالفون شريعة الله يسميهم الإنجيل “بالخطاة”، والناس في نظر الله صنفان “خطاةٌ وأبرار”.. لأجل الخطاةِ جاء المسيح ولم يأتِ لأجل الأبرار. فهو عاش مع الخطاة، واحتَكَّ بهم، وحاورهم، وتحمّل أذاهم، واهتمَّ بهم، وأحبَّهم، ولاطفهم، وربح الكثيرين منهم: ربح مريم المجدلية بعد أن كانت قمة في الشر، وربح المرأة السامرية للإيمان وهي امرأة خاطئة غارقة في الإثم، وخلَّص زكا العشار جابي الضرائب الجشع الذي ظلم مواطنيه وابتزَّ أموالهم بالحرام، وربح شاول الطرسوسي الإرهابي الخطر الذي كان له تاريخ في اضطهاد المؤمنين المسيحيين وتعذبيهم، فصنع المسيح من هؤلاء ومن غيرهم أشخاصاً قديسين  وقديسات.

وعفا الله عما مضى.. فالمجدلية صارت من أعظم قديسات العهد الجديد، والسامرية بعد إيمانها أخذت تنادي بالمسيح بين شعبها وتسببت بإيمان الكثيرين من السامريين بالمسيح، وزكا صار رجلاً مؤمناً تائباً طائعاً محباً لله وللناس، وعابداً تقياً وها قصته في رجوعه إلى الله سجلها الإنجيل في الأصحاح التاسع عشر من إنجيل لوقا.

ومن يقرأ الإنجيل يلاحظ أن من بين ملامات اليهود للمسيح في زمان وجوده على الأرض أنه كان صديقاً للخطاة، ومن بينهم فريسيٌ كان المسيح يجلس في بيته حين دخلت امرأةٌ نادمة تائبة باكية، وكان لها ماضٍ في الخطية، فعبَّرت عن توبتها وشكرها للمسيح الذي أنقذها وانتشلها مما كانت فيه وخلصها، فسكبت قارورة من الطيب على رأسه ومسحت رجليه بشعر رأسها وهي تبكي انسحاقاً… فقال الفريسي صاحب البيت  في قلبه… لو كان هذا يعلم من هي هذه الخاطئة لما سمح لها بأن تقترب منه وتلمسه. هذا هو عين التطرف في الحكم على الغير في شأنٍ ما هو اختصاص الله، وهذه عادة الأشخاص الذين يرتدون ثياب التديّن في استعلاء، ويحتقرون الغير، ويترفَّعون عنهم، وبعضهم يستمتعون بشتمهم وتكفيرهم…

أحضروا امرأة إلى المسيح وقالوا له: هذه المرأة أُمسكت في ذات الفعل، وحسب شريعة موسى أُمرَ برجمها، فماذا تقول أنت… فقال لهم: ”من كان منكم بلا خطية فليرمها أولاً بحجر“… كلمات المسيح تلك أصابت مقتلاً في هؤلاء… وكأنه مرر أمام وجوههم شريطاً يصوّر تاريخ كلٍّ منهم كاشفاً عيوبهم، ولما لم يكونوا أبرياء رغم ثوب التدين الذي يرتدون، انسحبوا من المشهد بصمت، الواحد تلو الآخر ولم يواصلوا شكواهم…  ثم قال للمرأة:  أين هم المشتكون عليك؟ فقالت لا أحد يا سيد.  فقال اذهبي ولا تخطئي بعد!… فكانت كلماته أعظم علاج لإصلاح ما وقعت به من عيوب.

فنحن في بلدان الشرق نميل دوماً إلى الحكم المطلق فنرصد الآخرين ونحكم عليهم في ذنوبهم وننسى ما بنا، ولذلك قال المسيح في عظته على الجبل: أيها المرائي اخرج أولاً الخشبة من عينك قبل أن ترى القذى الذي في عين أخيك.

ولعلنا نسينا أن محاكم التفتيش كانت غلطة في التاريخ، ومع ذلك نجد اليوم محاكم تفتيش أخرى متنوعة تجري على الأرض، الشيء الذي يولد في القلوب الميل للتهرُّب من الأحكام القاسية بالتَّظَلُّلِ بغطاءِ النفاق والتظاهر بالتقوى بينما الصورة في الداخل تختلف، وهذا ما يولده حكم الترهيب والوعيد في الخطاة .

عاش المسيح في حياته على الأرض ثائراً على النفاق وأساليب التدين بغطاءٍ من الرياء، فهو عاش في وسط مجتمعات شرقية، وعلى أرضٍ شرقية، وبين أناس شرقيين، وكانت عظاته مستمدّة من واقع حال الناس، فنبَّه في خطبه ومواعظه بين الجماهير إلى السلبيات في أساليب الحكم على من يخطئون.

 فقال في عظته على الجبل: احترزوا من أن تصنعوا صدقتكم قدام الناس لكي ينظروكم، وإلا فليس لكم أجر عند أبيكم الذي في السموات. فمتى صنعت صدقة لا تصوّت قدامك بالبوق كما يفعل المراؤون لكي يُمَجَّدوا من الناس… أما أنت فمتى صنعتَ صدقةً فلا تُعرّف شمالك ما تفعل يمينك، لكي تكون صدقتك في الخفاء.

وقال عن الصلاة: ومتى صليت فلا تكن كالمرائين فإنهم يحبون أن يصلوا قائمين في المجامع وفي زوايا الشوارع لكي يظهروا للناس، الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم، أي أنهم استوفوا مديح الناس من دون الله لأن صلاتهم نفاق غايتها مديح الناس.

وقال في الصوم: ومتى صمتم فلا تكونوا عابسين كالمرائين، فإنهم يغيرون وجوههم لكي يظهروا للناس صائمين، الحق أقول لكم إنهم قد استوفوا أجرهم وأما أنت فمتى صمت فادهن رأسك واغسل وجهك لكي لا تظهر للناس صائماً بل لأبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك عَلانية. (ويقصد بأبيك الله خالقك، وكل الناس عيال الله).

قارئي الكريم،

ما قدمناه في هذا هو دعوة للتعامل بالحسنى مع المخطئين، ليس بالترهيب ولا بالوعيد لأن الترهيب يصنع من المجتمع الذي يعيش في ظلاله مجتمعاً خانعاً منافقاً تكمن في داخله بذور التَّمرّد والكفر بكل القيم التي عاشها تحت التهديد بالعصا والترويع بالجزاء.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *