أصل الإرهاب ومن أين جاء – الحلقة الأولى

القس يعقوب عماري

قال صديقي: ما رأيكم في الإرهاب؟ فقلتُ: الأفضل يا صديقي أن يكونَ السؤال: ما رأي الله في الإرهاب!… أما آراء الناس فمتعددة وكلٌّ يُدلي بدلوه للتعريف بالإرهاب، وتحديد موقفه من الإرهاب. لقد انشغل الناس من خلال وسائل الإعلام المتعددة بالتعريف في مَنْ هو الإرهابي ومَنْ هو الضحية، فاختلطت الأوراق حتى بدا في كثيرٍ من الحالات أن الجاني والضحية كلاهما إرهابيان.

ومن جهةٍ أخرى فإن الأحداث الإرهابية التي تتحدث عنها الشعوب في هذه الأيام ليست جديدة على السلوك البشري، ولو أنّ الإرهاب في هذا الزمن استخدم في تنفيذ ما يُخطط له وسائل حديثة ومبتكرة لم تكن متوافرة في غابر الأزمان. فالإرهاب بشكلٍ عام قديم قدم التاريخ. ولعلّ أول عملٍ يمكن وصفه بالإرهاب هو ما حصل بين ابنَي آدم، حين قام قايين على أخيه هابيل وقتله غدراً.

ويخبرنا الوحي في سفر التكوين الأصحاح الرابع أنه عندما لاحظ الله النيّة الماكرة في قلب قايين نحو أخيه، حذره بقوله: لماذا اغتظت ولماذا سقط وجهك؟ إن أحسنت أفلا رفعٌ! وإن لم تُحسن فعند الباب خطية رابضة وإليك اشتياقها وأنت تسود عليها. ومع ذلك خطط قايين بغدرٍ لتنفيذ ما نوى عليه وكلّم أخاه وانتحى به في الحقل وقامعليه وقتله… فناداه الله قائلاً: قايين أين هابيل أخوك؟فقال: لا أعلم، أحارسٌ أنا لأخي! فقال الله: ماذا فعلت؟ صوت دم أخيك صارخٌ إليّ من الأرض، ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك، ثمّ قال: متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها، وقال: تائهاً وهارباً تكون في الأرض!

أما عن تعريف الإرهاب، فهو كلّ عملٍ غادرٍ هادفٍ لقتل وإزهاق الأرواح البريئة. وفي نظرنا إن القتل والزنى هما من أبشع الآثام التي ينهي عنها الله، وكلاهما ورد ذكرهما في الوصايا العشر التي أوحيت إلى موسى النبي، لا عذر للقاتل والزاني والإرهابي مهما كانت المبررات، ولا مهرب له من عذاب يوم الدّين.

قال المسيح يوماً لأحدهم: “ردّ سيفك إلى غمده لأن الذين يأخذون السّيف بالسّيف يهلكون”. ويقول المثل الشعبي: بشِّر القاتلَ بالقتلِ ولو بعد حين. فقاتل النفس التي حرّم الله قتلها مصيره النار ولو تشدق بالأعذار والمُسبِّبات. وقال المسيحُ يوماً لأتباعه: “تأتي ساعة فيها يظن كلّ من يقتلكم أنه يقدّم خدمة لله”، وقال: سيفعلون هذا بكم لأنهم لا يعرفون الله ولا عرفوني. ثمّ قال: كلّمتكم بهذا حتى إذا جاءت الساعة تذكرون أني أنا قلته لكم.

قلنا فيما تقدّم أن القتل والإرهاب جريمة قديمةٌ قدم التاريخ، ومن حينها توالت أعمال العنف وسيل الدماء في نزاعات وخصومات وحروب على مدى التاريخ الطويل، بصورٍ وتشكيلاتٍ متنوعة تفنَّن أصحابها بها، فاصطلحت المجتمعات السياسية الحديثة على تسمية شكلٍ منها بالإرهاب على اعتبار أن الإرهاب ليس حرباً معلنة في ميدان مكشوف بين فريقين متخاصمين، بل هو عمل غادر مرهبٌ غالباً ما تكون ضحاياه من الأبرياء العزل الذين يدفعون ضريبة الموت بدل جهاتٍ سياسيةٍ أو دينيةٍ مُحصّنة في أبراجها بعيداً عن الأذى تمثلُ طرفاً في الخصومة.

أمّا لماذا سُمِّيَ بالإرهاب فلأنه عملٌ مفزعٌ مفاجئ لأناسٍ يعيشون في اطمئنان، يُفاجئون بعملٍ عدائي عنيف ليسوا طرفاً فيه ولا يتوقعونه، وقد يكون بين الضحايا أطفال ونساءٌ وشيوخ مسنين، أو قد يكون بينهم أيضاً أناس من شعوبٍ وجنسياتٍ أخرى غير مستهدفة، لكن صادف وجودها في المكان في لحظة وقوع الحدث فراحوا بين الضحايا بلا ذنب.

وهنا لا بدّ من التنويه بأن زجّ الدّين في قضايا الإرهاب أمرٌ يرفضه العقلاء في جميع الشرائع، وترفضه كلّ القيم الإنسانية. إذ من غير الحكمة أن تُنسب الجريمة للدِّين حتى ولو ألبسها فاعلوها ثوباً دينياً ناصع البياض، فكيف يُنْسبُ للدِّين تبريرُ قتل الأبرياء العُزّل، إنما كثيراً ما يؤخذُ الدّين كغطاءٍ لتمرير العُنف وترويج الجريمة إشباعاً لقلوبٍ حاقدةٍ ناقمةٍ متعصبةٍ متعطشةٍ لإراقة الدّماء.

والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: طالما أن للإرهاب جذوراً قديمةً منذ نشأة البشرية، فكيف نبتت جذور الإرهاب في قلوب الناس؟  كيف استوطن هذا الحقد الجارف في نفوسٍ خلقها المولى في أحسن تكوين ليكونوا عباداً صالحين وأهل خيرٍ وإحسان؟ فهذا سفر التكوين أول أسفار التوراة وهو الشاهد الأول عن ما صنعه الله يوم خلق الإنسان في اليوم السادس للخليقة فقال: “ورأى الله كلّ ما عمله فإذا هو حسنٌ جداً “! فمن أين إذا تسلّل هذا الغضب العارم وهذا الحقد العنيد إلى نفوسٍ خلقها المولى لكي تزرع ولا تقلع، ولكي تبني ولا تهدم، ولكي تفعل الخير وترفض الشر ولكي تبارك ولا تلعن! ومتى انقلبت صورة براءة الإنسان التي خُلق فيها فصار لهذه المخلوقات الآدمية أن تجيز لنفسها العنف، والقتل، والدّمار الأعمى، بلا تمييز بين مذنبٍ وبريء حتى وصل بالبعض أن يدمّر نفسه بين ضحاياه دون أن يكون بين الجاني والضحية خلاف شخصي!

نخلصُ إلى القول بأن العمل الإرهابي كمثل غيره من الأعمال التي يرفضها الله، فالإرهاب صورة واضحة وصريحة تُعبّرُ عن الطبيعة الحقيقية للإنسان حين تهاوى وسقط في عصيان الله، وكان ذاك السقوط هو امتداد لسقطة آدم أبو البشرية حين خالف وصية الله وطرد من الجنة، فآدم سقط وسقطنا معه لأننا كنا في صُلبه. وآدم طُرد وطُرِدنا معه، وها نحن نعيش من يومها في أرض المنفى، أما الجنة فيستحيل الوصول إليها، ونحن في هذه الحالة، وصار الشرط لدخولها أن لا يدخلها قاتل أو سارقٌ أو زانٍ أو عابد وثن أو فاعل شرّ وإرهابي. فبعد أن سقط آدم في معصية الله حاول تبرير نفسه بالتّمويه، ونحن أبناؤه نسيرُ على ذات الدّرب، نتديّنُ ونكذبُ، نتديّنُ ونراوغ، نتديّن ونلعن ونشتم، نتديّن ونحقد وننتقم، نتديّن ونُنَصِّبُ أنفسنا مكان الدّيان الأوحد، ونُكفّر الناس ونقول: هذا للجنّة وهذا للنار!

فاستوطن الحقد في قلوبنا، ونزعة الشر في نفوسنا، وفي زحمة المبررات التي ندّعيها غاب العدل، وساد الظّلم والقهر حتى وصل بالبعض أن يوزع الحلوى ابتهاجاً بمصائب الأبرياء، وتفشّى الاستهتار بكل القيم الإنسانية التي ميّزت الإنسان عن الحيوان والمبرِّرات كثيرة. فعندما سقط آدم قال له الله ماذا فعلت! فقال: المرأة التي أعطيتني أغوتني فأكلتُ من الشجرة المحرّمة. فقال للمرأة ما هذا! قالت: الحيّة غرّتني فأكلتُ… ومن يومها تقوم البشرية بذات الفعل، وتبرر الشر بذات الأسلوب، ونتساءل في ختام هذه الحلقة، ما الحلّ؟ وكيف السبيلُ لإصلاح النفوس؟

من يستطيع أن يستأصل نزعة الحقد والكراهية وهذا السخط العنيد من قلب الإنسان؟

كلنا مصاب بهذا الداء على درجات متفاوتة، والعلّة تظهر فينا في ظروفٍ ومناسباتٍ معينة، فمن يُنقذنا من هذا الهلاك المدمر؟!

هناك حلّ واحد وحيد يعرفه الملايين، وقد اختبروه ونعموا به سنتحدث عنه بعون الله في حلقة قادمة.

Leave a Comment

Your email address will not be published. Required fields are marked *