في قصة الميلاد نجد دروسًا عمليّة لحياتنا، وكلّما تأمّلنا في شخصياتها نستطيع أن نستخرج منها لآلئَ وكنوزًا ثمينة لنغتني ونسمو روحيًّا.
وفي هذه المقالة أريد أن أكلّمك عن إحدى شخصيّات الميلاد ألا وهي المطوَّبة مريم العذراء في محطات من حياتها عن الطاعة العمليّة التي كانت عندها واضحة المعالم.
الطاعة والتواضع
ما أجمل هذه العبارة الخالدة “هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ. لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ.” (لوقا ٣٨:١) لقد عرفت المُطوّبة أن الله يبارك المتواضعين، كما يقول الكتاب “… وَأَمَّا الْمُتَوَاضِعُونَ فَيُعْطِيهِمْ نِعْمَةً.” فقالت: “هُوَذَا أَنَا أَمَةُ الرَّبِّ” أي خادمة الرب. يا له منِ اتّضاعٍ عجيب! فالعذراء تعلم يقينًا أنها من سبط يهوذا المَلكي، وخطيبها هو الوارث الشرعي لعرش داود. أي، إنها من عائلةٍ مَلكيّة ومع ذلك أدركت أن الله يرفع المتّضعين. كانت كلماتها الخالدة “لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ” دليلًا على خضوعِها التام لمشيئة الله. أما الدرس العملي لنا فهو أن الكبرياء تمنع المؤمن من التمتّع بوعود الرب، وعندما نتواضع أمام الرب وأمام إخوتنا المؤمنين نجد نعمةً عند الرب ونستطيع أن نتمتّع بوعود الرب ونخصّصها لحياتنا فنقول مع المطوَّبة “لِيَكُنْ لِي كَقَوْلِكَ.”
الطاعة والسموّ الروحي
“اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ اللهِ.” (لوقا ٣٥:١) نرى هنا أنّ التواضع أمام الله يجعل ذهن الإنسان مفتوحًا ليفهم أقوال الله. فقد أدركت المُطوّبة العذراء بالروح كل هذه المصطلحات اللاهوتية التي قالها الملاك، فهي لم تقل له: ومن هو الروح القدس؟ على عكس بعض التلاميذ الذين سألهم بولس الرسول: “هل قبلتم الروح القدس عندما آمنتم؟” قالوا له: “ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس.” أما الدرس العملي في هذا الميلاد هو أن نسأل أنفسنا: هل الروح القدس ساكن في قلوبنا؟ هل يُظهر مجده في تصرّفاتنا؟ هل نطيعه؟ هل نعمل على ألّا نحزنه ولا نطفئه؟ إنها تساؤلات أسألها لنفسي أوّلًا قبل أن أوجّهها لك.
وهنا اسمحوا لي أن أوجّه رسالة خاصّة لإخوتي خدام الرب: ما هي آخر مرّة تكلمت فيها عن الروح القدس، أعماله، ووظيفته في الكنيسة؟ وهل ستبقى مواهب الروح القدس مدفونة لأنه لا يوجد من يتكلّم عنها؟ ما أقصده هو ألّا يكون الروح القدس شخصية مجهولة في حياة المؤمنين.
الطاعة والمحبة العملية
إنّ محبة المؤمنين للرب سواء في العهد القديم أو الجديد هي المحرّك الذي يبرهن الطاعة للرب بالمحبة العمليّة. فها هي المُطَوَّبة مريم عرفت من الملاك أنّ أليصابات حامل في شهرها السادس لذلك تركت الناصرة وذهبت بسرعة إلى جبال اليهودية وقطعت مسافة ٩٠ ميلاً، وربما استغرقت خمسة أيام… وتصوّر معي تلك الأيام أنه لم يكن فيها مواصلات سريعة بل مشيًا على الأقدام أو على الدواب… ويعني رحلة شاقة حتى لو كانت مع قافلة وطرق وعرة فيها مخاوف من وحوش البرية… ومع ذلك كانت تدرك أنّ الرب راعيها، وهو لا ينسى تعب المحبة؛ فذهبت وخدمت أليصابات لمدة ثلاثة أشهر حتى ولادتها. وهذا هو الدرس العملي لحياتنا: يجب أن ندرك أن المحبة المضحية تنشئ سلامًا في قلب صاحبها وكلامًا يبهج السامعين إذ يقول الكتاب: “فَلَمَّا سَمِعَتْ أَلِيصَابَاتُ سَلاَمَ مَرْيَمَ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ فِي بَطْنِهَا، وَامْتَلأَتْ أَلِيصَابَاتُ مِنَ الرُّوحِ الْقُدُسِ.” (لوقا ٤١:١)
الطاعة وسلطان الكلمة
كانت المطوّبة مريم تعرف جيِّدًا أقوال الله الصادقة. فالنشيد الذي أنشدته ويسمّيه المفسّرون “نشيد التعظيم” كانت مسوقة بالروح القدس. وإذا درسنا بالتفصيل النشيد المبارك لوجدنا:
* أنها كانت على دراية بوعد الله لإبراهيم وتعضيده ليعقوب في سفر التكوين. * وعرفت عن رحمة الله للذين يتّقونه في سفر الخروج. * واقتبست من نشيد حنة أم صموئيل من سفر صموئيل الأول. * وعرفت وعود الله للملك داود من سفر المزامير. * وأدركت بعد ذلك بأنّ الله هو الذي سيجعل خطيبها يفهم معنى الآية المذكورة في سفر إشعياء “هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا”. * وعندما بشّرها الملاك قائلاً: “هَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ”. ومعنى اسم يسوع “الرب مُخلّص”. * واستخدمت هذا الاسم في التسبيحة “تُعَظِّمُ نَفْسِي الرَّبَّ وَتَبْتَهِجُ رُوحِي بِاللهِ مُخَلِّصِي”. والدرس العملي لنا هو: أين نحن من الكتاب المقدس؟ ليت كل واحد منا يأخذ نشيد المطوبة مريم ويرجع للكتاب المقدس ويستخرج الكنوز من تلك الاقتباسات الرائعة! * وليت كل واحد منا يطلب معونة من الرب لكي نلهج بأقواله ونطيعها.
الطاعة والسلام الحقيقي
تميّزت حياة المطوّبة مريم بالطاعة الكاملة للرب وأثمرت في هدوء قلبها ولسانها. فلم نسمع عن تذمّرها على مكان الولادة الوضيع، أو عندما وضعت يسوع في المذود… ولم تتكلّم سلبًا على أهل بيت لحم الذين لم يفتحوا بيوتهم مع أن خطيبها يوسف هو من تلك القرية… ولم نسمع عن مخاوفها من الثورات والقلاقل السياسية التي كانت آنذاك… لقد انطبق عليها هذا القول المبارك: “ذُو الرَّأْيِ الْمُمَكَّنِ تَحْفَظُهُ سَالِمًا سَالِمًا، لأَنَّهُ عَلَيْكَ مُتَوَكِّلٌ.” (إشعياء ٣:٢٦) أما الدرس العملي لنا هو: لماذا نجلب على أنفسنا وأجسادنا أتعابًا عندما نضطرب ونقلق ونفرّط في ألسنتنا؟ لماذا لا يكون هذا الميلاد بداية لهدوء القلب وهدوء اللسان؟ عندما نطيع الرب طاعة كاملة، يكون سلام الرب في حياتنا كنهر صافٍ.
عزيزي القارئ، وأنت تحتفل بالميلاد أسأل نفسك: كيف تكون طاعتي ومحبتي للرب عمليّة وملموسة من قِبَل الآخرين مثلما كانت محبة المُطوّبة مريم للرب وطاعتها له؟
ربما يشتري البعض زينة العيد بمئات الدولارات وينسون الفقراء والبسطاء المحتاجين للعون. لكن، يا ليت زينة العيد – ليس في هذه السنة فقط، بل دائمًا – تكون في حياتنا العمليّة عندما نُشبِع الجائع ونضمّد بكلماتنا ومشاعرنا جرحَ كلِّ من يقول “قَلْبِي مَجْرُوحٌ فِي دَاخِلِي”، ويكون لساننا لشفاء النفس المحطمّة. ولنتذكّر أن حياة المطوّبة مريم قد تميّزت بالطاعة العمليّة للرب، وكانت خدمتها تفيض بمحبة عمليّة. فما أعظم المؤمن الذي يضع البهجة على قلوب إخوته المؤمنين!