فتاة يهودية متواضعة، من سبط يهوذا من نسل الملك داود، كانت تعيش في الناصرة التابعة لمقاطعة الجليل، وكانت مخطوبة لرجل من بيت داود اسمه يوسف، يعمل نجارًا في الناصرة. وهي بنت هالي بن متثات بن لاوي من نسل ناثان بن داود الملك (لوقا3: 23-31)، وأختها هي زوجة كلوبا (يوحنا19: 25)، ونسيبتها هي أليصابات زوجة زكريا الكاهن (لوقا1: 36). وقد اختارها الله لتكون أُمَّا ليسوع المسيح المخلِّص – حسب الجسد – وذلك من مطلق نعمته الغنية. وجاءت عنها نبوة في إشعياء7: 14 «هَا الْعَذْرَاءُ تَحْبَلُ وَتَلِدُ ابْنًا وَتَدْعُو اسْمَهُ: عِمَّانُوئِيلَ». وذُكرت في الأناجيل الأربعة وسفر أعمال الرسل.
كانت المطوَّبة مريم تعيش حياةً هادئة طبيعية، حتى ظهر لها الملاك جبرائيل المُرسَل من الله، وقال لها: «لاَ تَخَافِي يَا مَرْيَمُ، لأَنَّكِ قَدْ وَجَدْتِ نِعْمَةً عِنْدَ اللهِ. وَهَا أَنْتِ سَتَحْبَلِينَ وَتَلِدِينَ ابْنًا وَتُسَمِّينَهُ يَسُوعَ. هذَا يَكُونُ عَظِيمًا، وَابْنَ الْعَلِيِّ يُدْعَى، وَيُعْطِيهِ الرَّبُّ الإِلهُ كُرْسِيَّ دَاوُدَ أَبِيهِ، وَيَمْلِكُ عَلَى بَيْتِ يَعْقُوبَ إِلَى الأَبَدِ، وَلاَ يَكُونُ لِمُلْكِهِ نِهَايَةٌ». (لوقا1: 26-33).
وأتصفت المطوَّبة مريم بعدة صفات مباركة:
اولا: تسأل للمعرفة
عندما عرفت أنها ستحبل بابن العلي وهي عذراء، سألت قائلة: «كيف يكون هذا وأنا لست أعرف رجلاً؟» وجميل أن نسأل عندما لا نعرف ولا نظل في جهلنا، وبالتأكيد ستأتي لنا الإجابة. كان سؤالها للمعرفة، وبحسب فكر الله، لأن ما سمعته كان مخالفًا للترتيب الطبيعي؛ لذلك سألت عن كيفية إتمامه. ولكنه لم يتضمَّن أي شك أو عدم إيمان كما حدث في سؤال زكريا الكاهن. والنتيجة أن الله أجابها بقول الملاك وقال لها: «اَلرُّوحُ الْقُدُسُ يَحِلُّ عَلَيْكِ، وَقُوَّةُ الْعَلِيِّ تُظَلِّلُكِ، فَلِذلِكَ أَيْضًا الْقُدُّوسُ الْمَوْلُودُ مِنْكِ يُدْعَى ابْنَ الله». وأخبرها، لكي يشجِّعها، أن أليصابات نسيبتها العاقر هي أيضًا حبلى بابن في شيخوختها وهي الآن في شهرها السادس. وأعلن لها أنه «لَيْسَ شَيْءٌ غَيْرَ مُمْكِنٍ لَدَى اللهِ».
ثانيا: الاتضاع
بالرغم مما قاله الملاك لها بأنها «المُنعَم عليها»؛ أي نالت إنعامًا وإكرامًا من الله، وأن الرب معها، وأنها مبارَكة في النساء، وأنها ستحبل بابن العلي الذي سيملك على بيت يعقوب إلى الأبد؛ لكنها كانت متضعة إذ قالت للملاك: «هوذا أنا أَمََُة الرب» أي خادمة الرب. كما قالت في تسبيحتها إن الله «نظر إلى إتضاع أَمَتِهِ»، وإنه «رفع المتضعين» (لوقا1: 38، 47، 52). لقد نظر الرب إلى اتضاعها ورفعها. وهذا مبدأ إلهي: «كل من يرفع نفسه يتضع، ومن يضع نفسه يرتفع» (لوقا14: 11).
ليعُطنا الرب أن نعيش حياة الاتضاع مثل المطوَّبة مريم؛ متذكّرين كلمات رب المجد يسوع: «تعلَّموا مني لأني وديع ومتواضع القلب. فتجدوا راحة لنفوسكم» (متى11: 29).
ثالثا: الإيمان
تميَّزت بإيمان الثقة؛ فبعد أن أخبرها الملاك بكيفية الحبل قالت: «ليكن لي كقولك». وعندما ذهبت إلى أليصابات نسيبتها قالت لها: «طوبى للتي آمنت أن يتم ما قيل لها من قبل الرب» (لوقا1: 38، 45).
ونجد في الكتاب المقدس أن ولادة طفل بطريقة غير عادية قوبلت بأفعال مختلفة: فقد ضحكت سارة امرأة إبراهيم قائلة: أفبالحقيقة ألد وأنا قد شخت (تكوين18: 9-15)، وانزعج منوح أبو شمشون عندما رأى ملاك الرب وخاف أن يموت (قضاة13: 22)، ولم يصدِّق زكريا الكاهن كلام الملاك، فظل صامتًا حتى وُلد يوحنا المعمدان (لوقا1: 18-20). لكن المطوَّبة مريم آمنت مباشرة دون نقاش أو جدال، لأن قلبها كان مجهَّزا لهذا الحدث العظيم.
ليتنا نعيش حياة الثقة في الرب وكلمته.
رابعا: خضوعها لمشيئة الله
كانت تعلم أن حبلها هذا سيكون في عين الناس مصدر عار، وسيثير الكثير من الشكوك والريبة، وربما إتهامها بالخطية، ويسبب لها الخجل حتى من يوسف خطيبها؛ وقد حدث فعلاً، فعندما عرف يوسف أنها حبلى لم يُرِد أن يُشهرها ويعرِّضها لعقوبة الرّجم، لأنه كان رجلاً بارًا، لكن أراد تخليتها سرًّا. ومع ذلك فقد خضعت بالتمام لمشيئة الله، وسلَّمت نفسها له، وتأكّدت أن الله في المشهد وسيرتب المنفذ لذلك، وهذا ما حدث فعلاً؛ إذ أن يوسف وهو متفكِّر في هذه الأمور ظهر له ملاك الرب قائلاً له: لا تخف أن تأخذ مريم امرأتك لأن الذي حبل به فيها هو من الروح القدس (متى1: 19-24).
ليتنا نُخضع أنفسنا لإرادته حتى لو واجهتنا صعوبات، لكن الله في محبته ونعمته يجعلنا نتغلب عليها.
خامسا: في شركة مع المؤمنات
كانت مريم في هذه الساعة في أشد الحاجة إلى شخص تشاركه بالأخبار السارة التي سمعتها، وتعلن عن فرحتها وبهجتها؛ فقامت في تلك الأيام وذهبت بسرعة إلى مدينة يهوذا، إلى أليصابات. وصار بينهما حديث جميل، وسجَّل الروح القدس كلماتهما في لوقا1: 39-54. وتشجَّعت مريم بكلام أليصابات التي هتفت: «مُبَارَكَةٌ أَنْتِ فِي النِّسَاءِ وَمُبَارَكَةٌ هِيَ ثَمَرَةُ بَطْنِكِ! فَمِنْ أَيْنَ لِي هذَا أَنْ تَأْتِيَ أُمُّ رَبِّي إِلَيَّ؟ فَهُوَذَا حِينَ صَارَ صَوْتُ سَلاَمِكِ فِي أُذُنَيَّ ارْتَكَضَ الْجَنِينُ بِابْتِهَاجٍ فِي بَطْنِي. فَطُوبَى لِلَّتِي آمَنَتْ أَنْ يَتِمَّ مَا قِيلَ لَهَا مِنْ قِبَلِ الرَّبِّ»، مع أن أليصابات، بحسب الإمتيازات البشرية، أكرم من مريم، لأنها كانت عجوز وامرأة كاهن ومن نسل هارون، ومريم فتاة صغيرة فقيرة مخطوبة لنجار في الناصرة، ولكنها أعطت مريم الكرامة اللآئقة بها لأنها صارت أمًّا للمسيح، وحسبت حضورها إليها شرف عظيم. بل أكثر من ذلك أن يوحنا المعمدان وهو جنين في بطن أمه تحرك ساجدًا للمسيح. وقد ترنمت مريم بتسبيحة جميلة فيها تعظم الرب وتبتهج بالله مخلِّصها، فما كان يشغلها هو مجد الله وإتمام مواعيده.
(ولحديثنا بقية بمشيئة الرب)